ولاية أوباما الثانية.. الاعتدال والمطالب العربية

TT

عودة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى البيت الأبيض وفوزه بفترة رئاسية ثانية، توضح معالم السياسة الأميركية للسنوات الأربع المقبلة، وتعكس مزاج الشعب الأميركي وتوجهاته، وخياراته، وكذلك استيعابه لدرس مغامرات الإدارة السابقة في عهد جورج بوش الابن، فالناخب الأميركي فضل سياسة الاتزان، أو التعقل التي انتهجها أوباما خلال فترة ولايته الأولى، والتي لم ينجر خلالها وراء التصعيد، أو الانفعال، وقد أدرك الناخب الأميركي حقيقة تبعات الأحداث التي مرت بها الولايات المتحدة والعالم، وتحديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تلاها من أحداث عالمية تورطت فيها واشنطن وكلفتها الكثير من الخسائر، ما عرض سمعتها كدولة عظمى للخطر، وأرهقتها اقتصاديا، بل وصل الأمر إلى الحديث عن زوال عصر القطب الواحد، وخلاصة الأمر ما عبر عنه الناخب الأميركي بالتصويت للرئيس أوباما، ويرسم لهذا الناخب صورة مغايرة لتاريخه الطويل في الانكفاء على الداخل، حيث كان لا يعير أهمية كبيرة للسياسة الخارجية لبلاده.

فوز أوباما وعودته إلى البيت الأبيض يجعلنا نتفاءل بعض الشيء، ونتمنى أن تستمر الإدارة الأميركية في نهجها المعتدل في السياسة الخارجية، والأهم من ذلك تقديم الحلول الواقعية لقضايا منطقة الشرق الأوسط، مع تسليمنا بأن واشنطن لن تقدم كل الحلول المأمولة لاعتبارات كثيرة، وكما عودتنا دائما، لكن نأمل تحقيق الحد المعقول الذي يتناسب مع توجهات إدارة أوباما وخططه التي سبق أن تبناها، وبما يتوافق مع المتغيرات في المنطقة، ويقلل من الاحتقان ضد الولايات المتحدة، خاصة مع طول أمد القضية الفلسطينية وانحياز واشنطن الدائم إلى إسرائيل، وزيادة العنف والتعسف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وكذلك النتائج السلبية للغزو الأميركي للعراق وأفغانستان.

نحن في الدول العربية نتفهم موقف أي رئيس أميركي في فترة ولايته الأولى، حيث يطمح للولاية الثانية؛ لذلك يتحاشى الصدام مع إسرائيل واللوبي اليهودي، ومع ذلك تفاءلنا في بداية ولاية أوباما الأولى، حيث كسر هذه القاعدة واستهلها بزيارات تاريخية للدول العربية والإسلامية، وتحدث عن أوجه العلاقة الإيجابية بين الإسلام والغرب، وطرح حل قيام الدولتين الفلسطينية - الإسرائيلية، وغيرها من المواقف التي أراحت العرب والمسلمين، خاصة بعد السنوات الثماني العجاف خلال فترة حكم الرئيس بوش الابن.

أما وقد بدأت الولاية الثانية فنتوقع ثبات الكثير من السياسات الأميركية تجاه المنطقة، ومنها عدم خوض أي حروب جديدة، وعدم تعامل الولايات المتحدة مع إيران عسكريا وهذا ما تؤيده دول الخليج العربية، إلا إذا أرادت إسرائيل إحراج أوباما بإشعال فتيل الصراع العسكري، بينما المؤكد أن تستمر سياسة فرض الحصار الاقتصادي على طهران، خاصة أن واشنطن تدرك تأثير هذا الحصار الذي أرهق الاقتصاد الإيراني، وأضعف العملة الإيرانية، ما قد ينتهي بتأجيج الصراع الداخلي، ومن ثم مواجهة النظام الحاكم مع الشعب الإيراني كمواجهات دول الربيع العربي، وهذا ما تخطط له واشنطن على ما يبدو.

فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، نعتقد أن الفرصة مواتية أمام أوباما للوفاء بوعده القديم لتحقيق قيام الدولتين في ظل المعطيات الجديدة، حيث هناك ضغوط في الشارع العربي لإنهاء هذه القضية، وفي المقابل هناك من يدعم المصالحة بين حماس وفتح بشكل أقوى من السابق بعد خروج قادة حماس من دمشق ولجوئهم إلى القاهرة وعمان، ورغبة الأنظمة العربية الصاعدة في تقديم إنجازات تساعدها على تقديم نفسها على أنها قادرة على القيام بدور مهم على الساحة الإقليمية، خاصة مع غياب الصوت السوري، وضعف دور حزب الله الذي كان يتبنى مع دمشق المعارضة لأي حل، واستخدام الورقة الفلسطينية كأداة لربط الجولان بالحل الدائم في المنطقة.

يتبقى الأمن في منطقة الخليج الذي لن يشهد تغيرا جوهريا خلال الولاية الثانية لأوباما طالما لا يوجد تدخل عسكري ضد إيران، ولكن المهم هو أن تلعب واشنطن الدور الذي يرمي لاستقرار المنطقة وليس تأجيجها، خاصة في دول الربيع العربي، حتى لا تفلت الأمور من عقالها، وحتى لا تكون التغييرات ضد مصالح المنطقة، فعلى الإدارة الأميركية دعم دول الربيع العربي اقتصاديا؛ حيث إنها تعاني من ضعف اقتصادي حاد، بل إن بعضها مهدد بأزمات اقتصادية طاحنة، مع ضرورة دعم التحول السياسي سلميا في هذه الدول بما يضمن تثبيت أركان هذه الدول، وليس عبر الاستمرار في نهج الفوضى الخلاقة التي لن تؤدي إلى المزيد من الأزمات، وخروج الوضع عن السيطرة، ما يعرض المنطقة بكاملها للخطر، وهذا ليس في مصلحة أحد، بما في ذلك أميركا نفسها، ولا ضير أن تستفيد واشنطن من أخطائها في المنطقة وتعيد رسم سياساتها وفقا لمصالحها، بما لا يتعارض مع مصالح دول المنطقة، ووفقا لشراكة استراتيجية تخدم مصالح شعوب جميع الأطراف، بما فيها المصالح الأميركية.

مع ذلك نعتقد أن دور واشنطن سوف يستمر في الترقب ومواكبة التغييرات في المنطقة العربية، فواشنطن غير معنية بتغيير الأنظمة في هذه الدول كثيرا طالما تحافظ على مصالحها مع الأنظمة الصاعدة، وستبقي على علاقات جيدة مع تيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية لضمان مصالحها، مع مراهنتها على عدم خسارة الشعوب أو تحديها، أو الصدام معها، من منطلق احترام رغبة الشعوب والاحتكام إلى اللعبة الديمقراطية، بل إن واشنطن لها مصلحة كبرى في ظهور حركات الإسلام السياسي على السطح؛ لأسباب كثيرة، منها ما هو تكتيكي، ومنها ما هو استراتيجي، وهذا ما سيؤكده المستقبل.

في الملف السوري، لم يشهد أي دور فاعل لواشنطن خلال الولاية الأولى لحكم أوباما، نظرا لإشهار الفيتو الروسي - الصيني الذي أفشل كل المساعي الأميركية لإنهاء هذه الأزمة، كما أن واشنطن تعاملت مع هذه الأزمة بعيدا عن التدخل العسكري، فهي تريد الضغط على النظام السوري لخلخلته من الداخل، مع دعم المساعي التركية والعربية التي تؤيد المعارضة السورية، لكن دون مواجهة مع روسيا والصين، أو استخدام القوة لإسقاط نظام الأسد، كما يبدو أن واشنطن تريد أن تتخلص من مخزون السلاح السوري في معركة داخلية حتى لا تقع هذه الأسلحة في أيدي النظام القادم في دمشق، خاصة إذا كان من تيار الإسلام السياسي، بما يضمن عدم تعرض أمن إسرائيل للخطر، مع إضعاف وتشويه صورة عناصر حزب الله التي تساند نظام الأسد على الأرض في سوريا حاليا.

على إدارة أوباما عدم تفويت الفرصة التاريخية لحل أزمات الشرق الأوسط، وعليها أن ترى العلاقات الأميركية - العربية من منظور أوسع وأكثر براغماتية حتى تكون قريبة من الأنظمة والشعوب العربية، وتحافظ على مصالحها في المدى البعيد.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث في دبي