بداية نهاية دولة آل «واسب»

TT

ربما يكفي دليلا على طوباوية النظرية القائلة بأن الرئيس الأميركي عادة ما يكون أكثر انعتاقا من التزاماته تجاه إسرائيل في ولايته الثانية مما كان عليه في ولايته الأولى، ما أبلغه الرئيس باراك أوباما لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، عن معارضته للتوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة لرفع مستوى تمثيل فلسطين من كيان «مراقب» إلى «دولة غير عضو».

أن يتبلغ عباس هذه الرسالة في الأسبوع الأول من ولاية أوباما الثانية، وفي سياق مناسبة يفترض أن تكون احتفائية بالنسبة للرئيس الأميركي (مناسبة تهنئته بالولاية الثانية) مؤشر آخر على أن أمل من يتوقع حلا أميركيا منصفا للقضية الفلسطينية في عهد أوباما يكاد يساوي أمل إبليس بالجنة.

هذا لا يعني، بأي منطق كان، الاستغناء عن دور الدولة العظمى الأولى في عالم اليوم في المساهمة بتسوية نهائية لأزمة الشرق الأوسط. ولكن، سواء أكانت حسابات هذه المساهمة سياسية أم استراتيجية، فإن استقراء التيارات التحتية التي أثرت على توجهات الناخب الأميركي عام 2012 - وإن بنسب يصعب تقديرها – تسمح بتوقع دور أميركي قد يكون أكثر إيجابية من السابق.

الحصيلة الأبرز لهذه التيارات التحتية – التي يدركها جيدا الرئيس أوباما – تتمثل بفوزه بالرئاسة مدعوما بأكثرية مريحة من أصوات اليهود المقيمين في الولايات المتحدة فيما صبت أصوات اليهود الأميركيين المقيمين في إسرائيل، بأكثريتها الساحقة، لصالح منافسه الجمهوري ميت رومني.

يصعب اعتبار هذا التباين بين موقفي الناخب اليهودي المقيم في إسرائيل والناخب اليهودي المقيم في الولايات المتحدة من أوباما مجرد صدفة. وإذا صح استخلاص عبرة سياسية من هذا التباين يجوز الاستنتاج بأن «ليبرالية» اليهودي الأميركي الموطن بدأت تتقدم على «صهيونيته» – إن جاز التعبير - وعلى أولويات خياراته الانتخابية.

صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية (عدد 12/11/2012) كشفت عن هذا التوجه المستجد في أوساط الجالية اليهودية في الولايات المتحدة بنقلها لنتائج «استطلاع ما بعد التصويت» EXIT POLL أجرته في مراكز الاقتراع الأميركية منظمة اللوبي الإسرائيلية «جاي ستريت» (المؤيدة لتسوية سلمية في الشرق الأوسط) فقد أظهر استطلاعها أن 10% فقط من الناخبين اليهود الأميركيين أكدوا أن إسرائيل لا تزال على رأس أولوياتهم السياسية فيما اعتبر الـ90% الباقون أن أولوياتهم تنحصر بفرص العمل والضمان الصحي والشؤون الاجتماعية... أما الحصيلة الثانية اللافتة بين التيارات التحتية المؤثرة على الناخب الأميركي عام 2012 فقد كانت استقطاب باراك أوباما لأصوات الأقليات الآسيوية والإسبانية (اللاتينو) بأكثرية ساحقة متفوقا على خصمه، ميت رومني، بنسبة ثلاثة أصوات إلى واحد بين ناخبي هذه الأقليات، وبنسبة 93% إلى 6% بين الناخبين السود. واللافت أيضا أن هذه الحصيلة رافقتها ظاهرة لا تقل عنها أهمية هي ارتفاع نسبة «الأقليين» بين المقترعين من 26% عام 2008 إلى 28% عام 2012.

إلا أن الظاهرة الأكثر مدعاة للاهتمام، خصوصا على المديين المتوسط والبعيد، تبقى في توزع أصوات الأميركيين البيض بنسبة 59% للمرشح الجمهوري، ميت رومني، و39% للمرشح الديمقراطي باراك أوباما، ما يعني أن فوز أوباما رجحته أصوات ناخبي الأقليات من أصول لاتينية وآسيوية وأفريقية، بالتزامن مع ارتفاع نسبتها.

تفوق أوباما على منافسه بنسبة إجمالية من الأصوات الشعبية لا تتجاوز الـ2.3% لا يسمح، بعد، بالتحدث عن تغير ديموغرافي جذري في المجتمع الأميركي يرشحه لأن يصبح أكثر تعاطفا مع سياسات الديمقراطيين الليبرالية منه مع سياسات الجمهوريين اليمينية. ولكن هذه النسبة تجيز التساؤل: هل ما شهدناه بداية نهاية هيمنة مجتع الـWASP (الأنجلوساكسوني البروتستانتي الأبيض) على القرار الأميركي؟

تبعات هذا التحول، إن سمحت قوانين الهجرة الأميركية بحدوثه وساعدت معدلات الولادة المرتفعة لدى الأقليات بتحقيقه، لا تخلو من إيجابيات سياسية بالنسبة للقضية الفلسطينية.

هذا إن تحملت هذه القضية البقاء دون حل حتى ذلك التاريخ.