المواجهة في لبنان: حزب الله وميقاتي بعد الأسد

TT

كان الشيخ أحمد الأسير يشيع مرافقيه اللذين قُتلا في كمين لحزب الله بحي التعمير عند مخيم عين الحلوة الفلسطيني، عندما كان الأمين العام لحزب الله يخطب داعيا جبهة 14 آذار إلى الخضوع للحوار معه أو يلغيهم لصالح آخرين. أما السيدة بهية الحريري فكانت تقول لرئيس الحكومة ميقاتي، الذي تطالبه قوى 14 آذار بالاستقالة منذ اغتيال اللواء وسام الحسن: إن الله يغفر لمن يحج سائر ذنوبه باستثناء الدماء، وإن الموقف الذي هو فيه أقسى على والديه الراحلين، وعلى المسلمين، من اغتيال رفيق الحريري!

يبدو الصراع السياسي (والأمني) في ظاهره بلبنان دائرا داخل الأوساط السياسية، بين الذين يريدون إزالة ميقاتي، والذين يريدون الإبقاء عليه لحين إيجاد مخرج آمن له! والواقع غير ذلك تماما بالطبع. فالأمر يعود إلى عام 2009 عندما كان الأميركيون في أول عهد أوباما ونهجه في «القوة الناعمة» يخططون لخروج آمن لعسكرهم من العراق، وللحيلولة دون نشوب نزاع مسلح جديد بين إسرائيل وإيران عن طريق استخدام حزب الله. تم التوافق بسرعة لأن أوباما كان على عجلة من أمره لسببين: تحقيق الوعد الانتخابي بالانسحاب من العراق، وإنجاز شيء في الملف الفلسطيني. لقد وقع التوافُق على تنصيب المالكي بالعراق، وعودة السفير الأميركي إلى سوريا الأسد، والحصول على ضمانات من إيران بعدم إزعاج إسرائيل، وهي ضمانات فهم منها الإيرانيون والأسد ونصر الله إمكان الاستيلاء على الحكومة اللبنانية دونما اعتراض أميركي. وقد حقق ذلك للإيرانيين وللحزب أمرين: أولا إحباط المساعي السعودية في إحداث مصالحة وطنية بالداخل اللبناني، وبين الإخوان المسلمين وسوريا، وثانيا إتمام استيلاء الحزب على كل مؤسسات الدولة ومرافقها تقريبا بما في ذلك المرفأ والمطار. وقد كان من بين القرارات الأولى لحكومة ميقاتي إجازة سفر الإيرانيين إلى لبنان من دون تأشيرة دخول! وما كان اختيار ميقاتي - وليس عمر كرامي - لرئاسة الحكومة العتيدة عبثا أو مصادفة. فهو شريك الرئيس الأسد في أعماله التجارية منذ عام 1995، وهو الذي أدخله إلى الحياة السياسية اللبنانية منذ عام 1996 أيضا.

ما تزعزع المحور الإيراني في السنوات الأخيرة إلا عندما قامت الثورة السورية. وكان الإيرانيون أول الذين هبوا لمساعدة الأسد بالمال والعتاد أولا، ثم بالرجال ثانيا. وأرسل الروس الخبراء والسلاح الثقيل ظنا منهم أنهم بذلك ينتقمون لما أصابهم في ليبيا، ويعودون قوة عظمى. وقد طال صمود الأسد، كما طال أمد الصراع، وكثر وقوع الضحايا، وهَول الخراب، ليس بسبب الدعم الإيراني، الذي وصل إلى استخدام حزب الله في القتال بداخل سوريا؛ بل وأيضا بسبب إعراض الأميركيين والأوروبيين عن المساعدة للمعارضة لأطول مدة ممكنة. والسائد أن ذلك كان بسبب الانتخابات الأميركية، وأن الأطلسي لا يستخدم قواته من دون موافقة أميركية، وخشية الاصطدام بالروس. لكنْ ينبغي التفكير دائما في العامل الثاني في الاتفاق الأميركي - الإيراني عام 2009: عدم التحرش بإسرائيل وبـ«اليونيفيل». ولو أنهم ساعدوا المعارضة السورية قبل الأوان، وقبل اتجاه الأسد للانكسار، لكان من المتصور أن يتحرش الحزب بـ«اليونيفيل» وبإسرائيل!

وسط فراغ أو امتلاء هذه الجبهة المغلوبة على أمرها في لبنان، جرى اغتيال اللواء وسام الحسن، فطالبت قوى 14 آذار رئيس الحكومة بالاستقالة، حتى لا يظل غطاء للجرائم والاعتداءات على الدولة والمؤسسات. والطريف أن الذين هبوا للدفاع عنه وعن حكومته - قبل نصر الله وعون - هم سفراء الدول الغربية ومسؤولوها في لبنان، ثم في البلدان الأصلية. لقد تحدثوا عن الاستقرار، وعن الخشية من الفراغ. وهم في الواقع ما خشوا شيئا من ذلك، لأن الحكومة الحاضرة كانت هي المزعزعة للاستقرار، والمصرة على التحالف مع الأسد ومخابراته وكتائبه المسلحة. وقد قال حسن نصر الله إن رجاله - الذي كثر القتلى بينهم - إنما يدافعون عن اللبنانيين في سوريا! وصور السفراء الأمر على أنهم مفتونون بميقاتي وشخصيته الناعمة والثرية والباعثة على الاطمئنان كما قالوا. بيد أن دوائرهم الأمنية كانت تذهب إلى أن الحزب قدم أجندته الأمنية والعسكرية لثلاثة أشهر: إلى الشهر العاشر من عام 2012، بدلا من الشهر الأول من العام القادم. فقد اقتنع الإيرانيون والروس أخيرا بأن الأسد دنا سقوطه، ولا بد من الاستعداد لما يأتي، بتشديد القبضة على لبنان. ولذلك تحركت الملفات الأمنية، وازدادت الإنذارات العسكرية، ومن ضمنها: زيادة عدد القوات الإيرانية والعراقية والنصرية في سوريا، والاستنفار في لبنان، واحتضان حكومة ميقاتي بقوة، وإرسال الطائرة من دون طيار إلى إسرائيل، وتهديد كل من يرفع رأسه أو يتلفت إلى جانب آخر.

لا يزال الأمين العام للحزب إذن يعتبر نفسه سيد الموقف. وهو يريد الإيحاء بذلك إلى حزبه وطائفته وحلفائه بالداخل، وإلى دول وجهات الجوار بالخارج. أما رئيس حكومته ميقاتي فهو في موقع أكثر حرجا وإن كان أقل مسؤولية. نصر الله مسؤول أساسي في المحور الإيراني الذي يتحرك الآن بقوة في العراق والبحرين واليمن وأماكن أخرى. وهذا المحور تكاثرت عليه المطالب: اضطراب بالعراق، وثورة في سوريا، وتمرد مدني في لبنان. وقد استخدم الجماعات الشيعية من جديد في كل مناطق النفوذ، واستخدم الجهاديين القاعديين بسيناء، والجهاد الإسلامي بغزة. وميقاتي بالطبع لا ناقة له ولا جمل في ذلك، فقد جاء من أجل الأسد، ومن أجل الدوليين، ومن أجل إرضاء طموحاته في الزعامة. لكنه وقد جاء واعيا وساعيا برجليه، صار الآن رهينة بين الإباديين (الأسد)، والجهاديين (نصر الله)!

متى يجري القفز من السفينة الغارقة؟ يبدو أن الروسي يحاول ذلك الآن. أما الإيراني فلا يستطيع ذلك لخطورة التداعيات عليه، من العراق وإلى الملف النووي. هل يقوم بمبادلة؟ لقد تأخر الوقت، وكان يستطيع الإفادة قبل عام. وقد نجت حماس بنفسها وما كادت. وهناك روايات عن النأي بالنفس من جانب المالكي. إنما بالعودة إلى نصر الله وميقاتي؛ فإن نصر الله ماض مضطرا إلى الحرب بالداخل والخارج. وهو مؤمن دائما بأن هذا هو واجبه الجهادي، سواء أكان ذلك بالهجوم على إسرائيل أو باحتلال بيروت، أو بالوقوف إلى جنب الأسد، أو بقتل مرافقي أحمد الأسير. أما ميقاتي فإنه رهينة من دون رسالة ولا دعوة، إذ إن الأسد لن يتركه الآن بعد أن أفاد من شراكته طويلا. ونصر الله يريد أخذه معه إلى الجهاد. لقد خمدت في نظراته أطماع أشعب، وبقي لديه خبث جحا دون ظرافته! وقد جلب كل هذا الاضطراب على أهل محور الممانعة: الدم السوري، وعظمة الشعب السوري.