الكويت: مخاطر سياسة الشارع

TT

منذ استقلالها عام 1960، أصبحت الكويت بلدا غريب الأطوار فيما يتعلق بالنموذج السياسي السائد فيها؛ حيث نجد مزيجا من هياكل السلطة التقليدية يتركز في يد الأسرة الحاكمة وحلفائها في العشائر القبلية والتجارية من جهة والسياسات الانتخابية من جهة أخرى، وهو النموذج الذي يصعب تصنيفه في سياق السياسة العربية. ومع ذلك، أثبتت الكويت على مدى عقود أنها تتمتع بالمرونة التي مكنتها من مواجهة الكثير من العواصف، بما في ذلك الغزو والاحتلال من قبل نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

وربما يرى خبراء الشرق الأوسط أن عائدات النفط الهائلة قد لعبت دورا رئيسيا في هذا التكوين، ولكن لا يعد هذا هو السبب الأساسي؛ لأن الكويت كانت قد وضعت نظاما للسياسة التوافقية منذ القرن التاسع عشر، أي قبل فترة طويلة من الطفرة النفطية. وقد تم اتخاذ خطوات على استحياء، وإن كانت مهمة في نهاية المطاف، باتجاه توسيع قاعدة اتخاذ القرار، حتى قبل الاستقلال. إن ظهور الأندية السياسية والاجتماعية والثقافية، والتوسع في وسائل الإعلام الحرة نسبيا، والتوتر الخلاق بين البرلمان والحكومة، كل ذلك قد ساعد على وجود نموذج سياسي خاص بالكويت وحدها دون غيرها.

ولذلك، تعد الكويت دولة مختلفة عن معظم البلدان العربية من عدة زوايا، فلم يكن لها أي معارضة في المنفى لأن المنشقين قادرون على التعبير عن آرائهم وهم في وطنهم، وغالبا ما يكون ذلك عبر وسائل الإعلام أو البرلمان. وعلاوة على ذلك، لم تكن الكويت من الدول التي تكتظ سجونها بالمعارضين والمنشقين. وقبل عدة سنوات، توترت الأجواء بشدة في الكويت بعد خبر الإعلان عن اعتقال أستاذ جامعي بتهمة «ازدراء الأديان»، وصادف أن كنت هناك وطلبت لقاء هذا السجين، واقترح صديق لي أن نذهب بالسيارة إلى «السجن» الذي اتضح أنه عبارة عن منزل يقيم فيه السجين ويحصل على وسائل الراحة الكاملة، وعندما وصلنا إلى هناك وجدناه يستقبل الكثير من أصدقائه. وتناولنا عددا هائلا من أكواب القهوة العربية ونحن نتحدث في ذلك الموضوع، قبل أن يتم الإفراج عنه بعد بضعة أيام.

ولا يمكن لأي مسؤول كويتي رفيع أن يتعامل بنفس الغطرسة التي يتعامل بها نظراؤه في الكثير من الدول العربية الأخرى. وفي المتوسط، يغادر الوزراء الكويتيون مناصبهم، باستثناء واحد أو اثنين، بعد مرور 14 شهرا. ولا يوجد لدى الكويتيين أدنى فكرة عن المعنى الحقيقي للطغيان، بالشكل الموجود في الكثير من بلدان منطقة الشرق الأوسط. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا يريد أي شخص إذن أن يضخ جرعة من سياسات التمرد في النظام الكويتي، قبيل الانتخابات العامة المزمع عقدها في الأول من ديسمبر (كانون الأول)؟

دائما ما يتم اللجوء إلى سياسات التمرد لسببين، أولهما عندما يخشى الناس من عدم سماع صوتهم في السياسة المؤسسية، بعدما تصبح وسائل الإعلام مغلقة أمامهم ويصبحوا غير قادرين على التعبير عن شكواهم وهمومهم في البرلمان، وكما قلنا سابقا فإن هذا لا ينطبق على الوضع في الكويت. أما السبب الثاني فيتمثل في معرفة أنه لن يتم الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات في إطار السياسة المؤسسية. وفي الوقت الحالي، فإن المجموعة الأكثر نشاطا في ضخ جرعة من التمرد في السياسة هي الحركة الدستورية الإسلامية أو «حدس»، وهي الفرع الكويتي من الإخوان المسلمين.

وتعرف هذه المجموعة جيدا أن المزيج السكاني في الكويت لن يسمح لها بتسجيل هذا النوع من النصر الانتخابي المطلوب لإحداث تغيير جذري، ولا يوجد هناك تكوين أو شكل يمكن «حدس» من الحصول على أغلبية برلمانية، على الرغم من احتمال حصولها على عدد كبير من المقاعد.

وهذا التحليل تؤكده الانتخابات الأخيرة في كل من المغرب وليبيا وتونس ومصر؛ حيث نادرا ما حصل الإخوان المسلمون على أكثر من ربع أصوات الناخبين. وتقتضى الحكمة أن تقوم «حدس»، ومعها جماعة الإخوان في جميع أنحاء المنطقة، بتقليل شهيتها للسلطة، ولا ينبغي على جماعة الإخوان أن تسعى لـ«قضم ما لا يمكنها مضغه»، وإلا سيفقد الإخوان الاحترام الذي حصلوا عليه، سواء كان عن جدارة واستحقاق أم لا، بسبب الاعتدال النسبي الذي أظهروه في بلدان «الربيع العربي».

وقبل عقد من الزمان، تحدث السياسي السوداني حسن الترابي عن حلمه بأن يستحوذ الإسلاميون يوما ما على الكويت ويستخدموا ثروتها النفطية للتعجيل بتحقيق أجندتهم. وعلى الرغم من سيريالية هذا الحلم الآن، إلا أنه ما زال موجودا في رؤوس البعض، سواء داخل أو خارج الكويت. وثمة عوامل أخرى، مثل الطموحات الشخصية، يمكن وضعها في الاعتبار. وليس من الصعب القيام بأدوار بطولية في الكويت؛ لأن المرء سيكون متأكدا دائما من أن أي شيء سيفعله كناشط سياسي لن يسبب له أو لعائلته أي أذى.

وفي السياسة، ربما يكون القيام بشيء غير ضروري أسوأ من ارتكاب خطأ جسيم. وفي الكويت، لا توجد هناك حاجة إلى سياسة الشارع ومعارضة الإصلاح المؤسسي؛ لأن سياسة الشارع من شأنها أن تضر بالنموذج الكويتي، كما يمكنها أن تقوض ثقة المواطنين في مواصلة الإصلاح من خلال السياسة التوافقية، وهو ما يمكن أن يؤدي بدوره إلى اتجاهين عكس بعضهما البعض، أحدهما مؤيد للديكتاتورية والآخر مؤيد للفوضى شبه المنظمة التي توجد في الكثير من بلدان العالم الثالث. وتقتضي الحكمة أن تتجه السياسة الكويتية نحو الإصلاح.

وتحول البرلمان الكويتي في بعض الأحيان إلى شكل من أشكال «السوق السياسي»؛ حيث يقوم الأعضاء بابتزاز الوزراء، وحتى مجلس الوزراء بأكمله في بعض الأحيان، في حين تحاول الحكومة بالإسراع في تطبيق أجندتها عن طريق رشوة البرلمانيين.

لقد أدت غلبة المصالح الفردية والعشائرية والطائفية إلى الإبطاء من ظهور الإحساس بالمصالح المشتركة، وهو ما أدى بدوره إلى إعاقة عملية صنع القرار، ومنع الكويت من الاستفادة الكاملة من إمكاناتها.

ولا يتسم النظام الانتخابي المتبع بالكمال، علاوة على أن عدم وجود أحزاب سياسية يشجع الطائفية. وعلاوة على ذلك، فإن النظام في الكويت مبني على قدر كبير من الفساد، فقبل بضع سنوات، دهشت عندما سمعت برلمانيين يطالبون بحماس بإلغاء جميع الديون حتى مستوى معين، وهي الخطوة التي كان من شأنها أن تؤدي إلى إفلاس المصارف الكويتية. وعلى هذا الأساس، فإن المهمة الأساسية تظل هي تنظيف جميع الأجواء والقضاء على الفساد.

ويعتمد الأمن الوطني للكويت، وحتى بقاؤه، بصورة جزئية على الأقل، على المحافظة على نظام توافقي يضمن الحريات الأساسية. وعلى الرغم من التغيرات الهائلة التي يشهدها المناخ السياسي في المنطقة، فإنه يتعين على الكويت أن تظل يقظة ضد القوى الجشعة، سواء كانت قريبة أو بعيدة.

وفي لحظة الخطر، فإن الكويت المختنقة في نظام ظلامي لن تكون قادرة على أن تطلب من العالم الخارجي أن يهب للدفاع عنها كما فعلت عام 1990. إن مقاطعة العملية الانتخابية في الوقت الذي يمكن فيه إجراء انتخابات حرة ونزيهة لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى التصويت للاستبداد تحت مسمى الآيديولوجية.