تشخيص الأمراض.. بين الطبيب والمريض

TT

يبدأ إتقان الطبيب خدمة مريضه بإتقانه مراحل عملية «التشخيص» diagnosis الطبي لحالته المرضية. ودون الوصول إلى تشخيص صحيح تكون المراحل التالية عبثا يتخبط فيه الطبيب ويعاني منه المريض إضافة إلى معاناته من المرض نفسه، وتكون حال الطبيب آنذاك هي حال المثل الشعبي نفسه عن «عبد المعين» الذي يحتاج إلى معين ونحن الذين استنجدنا به كي يعيننا! كما تكون حال المريض كالبائس الذي ينشد الراحة ونكون نحن منْ نزيد آلامه آلاما.

التشخيص وصف لعملية ذات مراحل، يقوم بها الطبيب كي يتعرف على المرض الكامن وراء ظهور أعراض معينة لدى المريض، أي إعطاء «اسم» يصف بشكل دقيق ومحدد ما الذي يحصل في جسم المريض وأدى به للشكوى أو ظهور أعراض معينة عليه. وكما يقول ابن منظور في «لسان العرب»: «شخّص الشيء عيّنه وميّزه عما سواه، ومنه تشخيص الأمراض عند الأطباء أي تعيينها ومعرفة مركزها».

التشخيص هي الخطوة الأولى في خطوات عملية علاج المريض، ذلك أن تحديد اسم المرض وتفسير الأعراض هو أساس عملية البحث عن أفضل وسيلة للعلاج ومتابعة تأثير تطبيقها على المريض والاطمئنان إلى وصوله إلى بر الصحة مرة أخرى بعد أن تلقفته أمواج بحر المرض.

الوصول إلى التشخيص عملية تحتاج إلى استعداد نفسي من الطبيب يستشعر به أن بدأ في أداء «مهمة». كما تحتاج إلى أناة في التفكير حول الطريقة التي سيستكشف بها مشكلة المريض. ويبدأ التشخيص من الحصول على «السيرة المرضية» التي على المريض سردها للطبيب، واستقراء الطبيب بتمعن كل مكوناتها. وبحد ذاته، استخراج هذه السيرة المرضية من فم المريض هو «مهارة احترافية» على الطبيب إتقانها. ثم طرح الطبيب أسئلة معينة عن السيرة المرضية كي تكتمل جوانب الصورة لدى الطبيب نفسه، وسؤال المريض عن جوانب تتعلق بالأجهزة والأعضاء الأخرى في الجسم، أو تاريخ الحالة الصحية السابقة للمريض، أو جوانب اجتماعية ذات علاقة بصحته، أو أدوية يتناولها عادة أو عارضا، وأمور كثيرة أخرى تعين الطبيب في عملية «حصر» الخيارات المحتملة من بين خيارات أوسع يطلق عليها «التشخيصات التفريقية».

وللتوضيح، فإن التشخيص التفريقي خطوة مهمة في عملية التشخيص، ويهدف الطبيب منها للوصول إلى تفسير طبي أقرب ما يكون للصواب للحالة المرضية، ويعتمد الأمر على استحضار الطبيب في ذهنه جميع احتمالات قائمة أسماء الأمراض التي من الممكن أن أحدها أو عددا منها تسبب في ظهور المرض والأعراض المرضية لدى المريض.

وخلال عملية التفريق هذه، يطرح الطبيب أسئلة تنم عن الذكاء والفهم لديه، ويجري الفحص السريري للمريض بعناية ودقة ومهارة، وينتقي إجراء فحوصات وتحاليل معينة توفر له نتائجها معلومات مضافة؛ منها ما تساعد كـ«شواهد إثبات» في حسم تسمية المرض، ومنها ما تكون كـ«شواهد نفي» تنفي الاحتمالات الأخرى.

عودة إلى المثل الشعبي عن حال «عبد المعين».. إن تخبط الطبيب في شأن إتقان عملية التشخيص أمر للأسف شائع.

والسؤال: كيف نتعامل مع هذه المشكلة؟ إن أساس حل أي مشكلة بطريقة إيجابية هو معرفة سببها، ومعرفة السبب ليس لتوجيه الملامة، ذلك أن الطريقة السلبية لحل المشكلات، والمعتمدة على البحث عمن تلقى عليه الملامة، لم ولن يحل أي مشكلة.. وفيما يدور الحديث عنه.. السبب يكمن إما في الطبيب أو المريض، لأنهما هما اللذان يتقابلان وجها لوجه، إن أفلحا معا، نجحا واستفاد كل منهما، وإن فشلا، فإنهما يفشلان جميعا.

من ناحية، الطبيب هو الأساس في النجاح أو الفشل، والمريض عامل مساعد. وكما أن الذوق في التعامل أو استثمار الوقت أو الأناقة في ارتداء الملابس، كلها «قرارات شخصية» يتخذها الإنسان لكي يكون في «مستوى» معين، فكذلك «إتقان» الطبيب عمله هو قرار شخصي لا يمكن أن يتخذه له أحد بالنيابة عنه، هو منْ يختار، ويتحمل مسؤولية اختياره، أن يكون طبيبا «حكيما» متقنا لعمله متفهما لشكوى مرضاه ساعيا إلى تقديم أفضل ما يمكن من خدمة طبية لهم، وهو منْ يختار أن يكون طبيبا ليس له حظ من الطب إلا ارتداء «البالطو» الأبيض و«التسكع» في المستشفى والتسبب في إيذاء المرضى.

وهذا لا علاقة له بعدد شهادات التخصص التي يعلقها الطبيب على جدران مكتبه. وصحيح أنه نتيجة لاختيارات الطبيب، فإنه في النهاية سينجح عاليا أو سيدفع الثمن وسيدمر سيرته المهنية والوظيفية، ولكن هذا لن يعوض الخسائر المتمثلة في أعداد المرضى الذين تعمقت معاناتهم طوال الوقت الذي «أخذ الطبيب راحته» في إهماله معالجتهم بإتقان.

الطب مهنة إنسانية على درجة عالية من الأهمية والحساسية، لا مجال فيها للعبث ولا للممارسة الهابطة. والسؤال: هل علينا أن ننتظر أو نصبر على الطبيب ونعطيه الفرصة تلو الفرصة، أم علينا أن نكون حازمين في تقييمه من البداية وأن نأطره على إتقان العمل أطرا؟ الجواب دون شك أنه لا مجال للصبر لأن عدم الإتقان «قرار شخصي» اتخذه الطبيب نفسه، ولأن معاناة المرضى من عمل الطبيب يجب أن لا تكون ولا يجدر أن تحصل ولا يوجد مبرر لها ألبتة.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]