ماذا هنالك؟ أسئلة صريحة.. حول ما يجري في غزة؟

TT

من تأسس على العدوان، وتغذى بالعدوان، يستحيل أن يكف عن العدوان. فإنه يعتقد جازما أن الكف عن العدوان يهدم أساسه، ويقطع عنه مدد الغذاء والحياة.

هذا هو الأصل الفكري والسياسي الذي يتوجب أن يفسر به سلوك إسرائيل الذي توحل في الدم منذ عام 1948، بل قبله ولا يزال يتوحل. والعدوان الجديد على غزة منذ أيام يندرج في هذا السلوك الذي يَطرب بقتل الفلسطينيين، بعد احتلال أرضهم!!

ولكن لماذا الآن؟.. لماذا اختارت إسرائيل هذه الظروف لتصعيد عدوانها؟ هنا تتبدى أسئلة صريحة حول ما يجري في غزة:

1) هل انتهزت إسرائيل فرصة فوز أوباما بفترة رئاسية ثانية لكي تمتحنه مبكرا وتضعه في موقف حرج، أو تمتحن تصريحاته في أثناء حملته الانتخابية عن أن أولوياته المقبلة هي «حماية أمن إسرائيل» والدفاع عن شرعيتها؟ هل فعلت ذلك لتنسف مقولة عربية معجونة بالبلاهة وهي: إن الرئيس الأميركي يكون - في العادة - أكثر تحررا من ضغوط اللوبي الصهيوني في ولايته الثانية؟

2) هل ثمة «توافق استراتيجي» - أميركي إسرائيلي - على التصعيد ضد الفلسطينيين بمجرد فوز أوباما بفترة رئاسية ثانية؟ وأنه بمجرد إعلان نتائج الفوز يبدأ بتطبيق هذه الاستراتيجية.

يبدو ذلك!! فما أن شنت إسرائيل عدوانها الجديد على غزة حتى سارع الناطق باسم البنتاغون ليقول: «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ضد الإرهاب»!!.. وهذه عبارة باطلة من الألف إلى الياء لأنها عبارة «تبرر» العدوان تبريرا أبديا بمعنى: أن الذي تُحتل أرضه لا يجوز له أن يدفع عن نفسه ظلم الاحتلال، فإذا مارس حقه الإنساني والقانوني - ككل شعب فوق الكوكب - فإنه يجب قمعه بحجة أنه «أرهب» المحتل لأرضه «!!!!».

3) هل يمكن تحسين صورة أميركا - لدى الرأي العام العربي الإسلامي - في ظل هذا التأييد الأميركي المطلق لباطل إسرائيل وعدوانها؟ (نحيي الأزهر الشريف في موقفه الصلب في إدانة أميركا).

يستحيل أن يحصل ذلك مهما اتخذت أميركا من التدابير النظرية، والمكياجات التجميلية لتحسين صورتها بأقوال معسولة.. في مقال الأسبوع الماضي (بأي رؤية للعالم العربي الإسلامي عاد أوباما إلى البيت الأبيض) كتبنا هذه العبارة: «إن هذا التناقض الأميركي المعيب بين القول والفعل يلطخ - بطين سوء السمعة - صورة الولايات المتحدة الأميركية - من جديد - لدى الرأي العام العربي الإسلامي.. نعم. إن الأميركيين ضائقون بصورتهم الشائهة لدى الشعوب العربية الإسلامية ويريدون تجميلها، لكن هذا المطلب الأميركي المعقول مقترن بمطلب عربي إسلامي معقول أيضا وهو: أن تجميل صورة أميركا يكون بـ(الأفعال) العادلة، لا بمجرد الأقوال والوعود».

وتأييد أميركا للعدوان الإسرائيلي الجديد على غزة يضيف أطنانا من السوء والسواد على الوجه الأميركي فإذا هو أكثر بشاعة ودمامة. فهل هذا الفعل المشوه للصورة والسمعة «أولوية» من أولويات أوباما في فترة رئاسته الثانية؟!!

عجبا!!.. لماذا يفعل هذا الرجل بنفسه وبلده هذه الأفاعيل؟

4) هل انتهزت إسرائيل «دوامة الربيع العربي» ودخول الكثيرين في غيبوبة استراتيجية وسياسية، لكي تزداد فجورا وعدوانا واستهتارا بكل ما هو عربي وإسلامي؟ وهل هذا الربيع هو «ربيعها» هي وفق هذه المعادلة؟!

5) إن إسرائيل مقبلة على انتخابات تشريعية بعد أسابيع وهي انتخابات سيخوضها اليمين الصهيوني الأشد تطرفا موحدا.. فهل العدوان الجديد على غزة فقرة مطولة في البرنامج الانتخابي لهذا اليمين المشحون بالتعصب والاستعلاء وجنون الولوغ في الدم، والإدمان على مصّه ولعقه؟

6) هل قدرت إسرائيل أن الوقت قد حان لتنفيذ مخططها «القديم الجديد»، مخطط ترحيل فلسطينيي غزة إلى «سيناء» المصرية، وفقا للمثل القائل «لا تعطه شيئا، وإن أردت أن تعطيه فافتل له من شعر لحيته حبالا»!!.. وسيناء هي شعر لحية الذات!!

حقيقة.. إن في «اتفاقية كامب ديفيد» ما يريب في هذا الشأن بالذات، فقد أصرت إسرائيل على أن تجعل مساحات واسعة من سيناء خارج سيطرة القوات المسلحة المصرية.. ومن المحزن أن هذا الإصرار الخبيث الماكر قد أصّلته تلك الاتفاقية فقالت - مثلا - في الفقرة (أ) من بند مرابطة القوات: «لن ترابط من القوات المسلحة المصرية أي قوة تزيد عن فرقة واحدة (ميكانيكية أو مشاة) داخل منطقة تقع تقريبا على بعد 50 كيلومترا شرقي خليج السويس وقناة السويس». فهل كان في ذهن المفاوض الصهيوني فكرة تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء وهو يصر على خلو مساحات كبيرة من سيناء من قوات مصرية ضاربة؟

ليس من العقل، ولا من بعد النظر، ولا من الفهم الذكي للأطر الاستراتيجية التي تعمل إسرائيل بمقتضاها، ليس من ذلك في شيء استبعاد أن تكون إسرائيل قد استحضرت هذا الهدف الاستراتيجي الكبير في أثناء المفاوضات.. مثلا: ألم يتحدث بن غوريون - قبل ثمانين عاما - عن أهمية مياه النيل لإسرائيل وضرورة تمركزها في بلدان منابع النيل، ولا سيما جنوب السودان وإثيوبيا الخ؟

7) وفق العدوان الإسرائيلي الجديد على غزة، وبموجب العدوانات السابقة كلها، هل أدرك العرب حقيقة أن إسرائيل «لا تريد السلام قط، وأنها دولة تعيش بالعدوان وللعدوان»؟ ولو كانت تريد السلام لسارعت إليه، وارتوت من مائه العذب.

أ) لسارعت إليه بمقتضى اتفاقية كامب ديفيد للسلام التي نصت على أن السلام: «يتطلب احترام السيادة، وسلامة الأراضي الإقليمية، والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة، واحترام حقوق الدول الأخرى في أن تعيش في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها وخالية من التهديدات أو أعمال القوة، وأن التقدم نحو تلك الغاية يستطيع أن يسرع الحركة نحو عصر جديد من المصالحة في الشرق الأوسط متسم بالتعاون في تعزيز التنمية الاقتصادية، وفي المحافظة على الاستقرار، وفي ضمان الأمن»

ب) ولسارعت إلى تطبيق اتفاق أوسلو الذي قدم فيه الفلسطينيون تنازلات مذهلة جدا.. ففي مناخات التوقيع على أوسلو أرسل ياسر عرفات - رحمه الله - رسالة واضحة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين قال فيها: «تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في أن توجد بسلام وأمان.. وتلتزم منظمة التحرير الفلسطينية أن توقيع إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) يشكل حدثا تاريخيا كما يدشن حقبة جديدة للتعايش السلمي الخالي من العنف وجميع الأعمال الأخرى التي تهدد السلم والاستقرار. وبناء عليه فإن المنظمة تنبذ اللجوء إلى الإرهاب وأعمال العنف الأخرى.. كذلك فإن المنظمة تؤكد أن المواد الواردة في الميثاق الفلسطيني والتي ترفض حق إسرائيل في أن توجد، وكذلك بنود الميثاق التي لا تنسجم مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة: تصبح الآن غير عاملة وليست سارية المفعول.. وستقوم المنظمة بعرض الأمر على المجلس الوطني الفلسطيني من أجل الحصول على الموافقة الرسمية على التغييرات الضرورية في الميثاق الوطني والمنظمة كذلك».

ج) ولو كانت إسرائيل تريد السلام - بصدق - لسارعت إلى الموافقة على مبادرة السلام العربية، ولسارعت إلى تطبيقها من حيث أنها رسالة واضحة و«شاملة» تشمل الدول العربية كافة.. فمما جاء في هذه المبادرة:

1) «يطلب من إسرائيل أن تعيد النظر في سياساتها، وأن تصرح بأن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي»

2) بالإضافة إلى ذلك تدعو المبادرة إسرائيل لتؤكد:

أولا: الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967. ومن جملتها مرتفعات الجولان السورية إلى خطوط الرابع من يونيو (حزيران) من عام 1967 والأراضي اللبنانية المحتلة المتبقية كذلك في جنوب لبنان.

ثانيا: قبول تأسيس دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من شهر يونيو من عام 1967. في الضفة الغربية وقطاع غزة مع القدس الشريف عاصمة لها.

3) وبناء على ذلك فإن الدول العربية تعتبر النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، وتدخل في اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتوفر الأمن لجميع دول المنطقة.. وتقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل.

4) تضمن رفض كل أشكال توطين الفلسطينيين التي تتعارض مع الظروف الخاصة للبلاد العربية المضيفة.

هذه هي أهم بنود مبادرة السلام العربية، ولو كانت إسرائيل تريد السلام حقا لسارعت إلى الأخذ بها. بيد أن إسرائيل رفضت ذلك كله لأنها دولة حرب وعدوان. وعلى العرب أن يقتنعوا بهذه الحقيقة، وأن يتحرروا من أوهامهم.