عُمان الفاعلة بصمت

TT

للبعض عُمان وسياستها الخارجية تبدو غامضة، فهي ليست سائرة في الغالب مع التيار العربي، خصوصا في أوقات الأزمات الشديدة، تبدو متأنية، أما السياسة الداخلية فهي للكثيرين بعيدة عن التناول الإعلامي، وربما غياب عمان عن مانشيتات الصحف اليومية وعناوين نشرات المساء التلفزيونية هو إيجابية تحسد عليها، فالعمل هناك يجري بصمت ولكنه يبني نموذجا جديدا متفاعلا مع التقدم الإنساني، ولكن بأقل القليل من الضجة وندرة الاضطراب.

كنت في مسقط الأسبوع الماضي وحضرت افتتاح مجلس عمان، وهو المجلس المشترك بين مجلس الشورى (البرلمان المنتخب) ومجلس الدولة (المجلس المعين)، وعند اشتراكهما معا في جلسة واحدة يسمى المجلس بجناحيه الشورى ومجلس الدولة بـ«مجلس عمان»، والمجلسان من 168 عضوا، لكل منهما 84 عضوا، يمثلون شرائح المجتمع العماني ومكوناته.

الافتتاح حمل مناسبتين، الأولى قرب الاحتفال بالعيد الثاني والأربعين لدولة عمان الحديثة، والثانية افتتاح المبنى الجديد، وهو مبنى رائع الهندسة مصمم على طريقة القلاع العمانية المرتبطة بالشكل الهندسي الإسلامي، مع كل ما يتوفر من تقنية وصالات رحبة ومكاتب للأعضاء والعاملين.

عمان ذات تاريخ طويل يضرب جذوره في قرون سابقة، وربما العصر الذهبي الأول الذي عاشته هو التوسع البحري الذي حمل السلطة العمانية والعمانيين إلى الشرق على سواحل الهند وإلى الغرب على سواحل أفريقيا الشرقية، وما زال هناك بعض من تراث عمان ومظاهر الحياة العمانية في تلك الأصقاع. عصر عمان الذهبي الثاني هو ما تم منذ أكثر قليلا من أربعة عقود بعد تولي السلطان قابوس الحكم، فانتقلت في بناء نموذج متدرج من المشاركة، تقريبا في كل عقد من السنين تنقل الإصلاحات السياسية من حسن إلى أحسن، من مجالس معينة إلى شبه منتخبة إلى منتخبة بالكامل (مجلس الشورى الحالي)، وأيضا مجلس مماثل معين هو مجلس الدولة.

الجديد في المسيرة العمانية هو انتخابات قادمة الشهر المقبل لمجالس البلديات، التي كانت حتى الفترة الأخيرة بالتعيين. ينتخب العمانيون رجالا ونساء ممثليهم في مجلس الشورى والمجالس البلدية، حسب قواعد موضوعة من خلال الولايات المختلفة، كل حسب ثقل الولاية السكاني، وترك الأمر في تحديد العدد إلى القانون لأن نسبة سكان الولايات متغيرة، كان من الطبيعي في مجتمع ما زال يتأثر بالتكوين القبلي التقليدي أن تفوز سيدة واحدة بالانتخاب فقط في مجلس الشورى، ولكنها أردفت بعدد من المعينات في مجلس الدولة من أجل تسنم المرأة المشاركة، كما تحمل ثلاث نساء حقائب وزارية في الحكومة، منها التعليم العام والتعليم العالي.

ما هو على الأرض في عمان هو الذي يعطيك هذا الانطباع الإيجابي عن الإنسان العماني، الذي يتصف بالكثير من الحيوية والنشاط والانضباط أيضا، وقد علمته نشاطاته الاقتصادية التقليدية ذلك، من ارتياد البحر بمصاعبه، إلى الزارعة بمواسمها، إلى الجبال التي تحيط بمدن عمان التي هي منيعة على الغير، سهلة الارتياد للعماني، هذه البيئة خلقت رجالا ونساء يتعاملون مع الحياة بإيجابية شديدة.

هناك متشابه ومختلف بين عمان ودول الخليج، أما المختلف فهو عمل الرجل والمرأة في عمان في كل الميادين تقريبا، فتجدهم في أصغر الأعمال وأيضا في أهمها من الطبيب والمهندس والتاجر إلى النادل في مقهى أو مطعم أو فندق، العمل شرف للجميع، أما الشخصية العمانية فأنا لا أتردد في الانبهار بها، سلسة ومنضبطة وودودة، ويحرص العمانيون على التراتبية الاجتماعية سواء من حيث السن أو المقام، والجميع متراحم، كما يعمل النساء والرجال دون كثير من الحرج الاجتماعي جنبا إلى جنب.

أما ما يتشابه بين عمان وإخوتهم الخليجيين فهو في القضايا التي يفرضها التطور الحديث، وخصوصا مصاعب التكيف مع النشاط الاقتصادي المتغير، وهنا أنقل من خطاب السلطان قابوس بن سعيد في حفل افتتاح مجلس عمان بعض نقاط الارتكاز التي تشبه ملفات الاهتمام في بقية دول الخليج في إلحاحها على التطور ومعوقاتها.

الأولى هي الاهتمام بالتعليم الذي قال فيه السلطان إن عمان اهتمت في البداية بالكم في التعليم، وهو أمر كانت تفرضه المرحلة، أما المرحلة القادمة فوجب الاهتمام بالكيف في التعليم والتدريب والبحث العلمي وتجويده، ومن هنا أنشأ مجلس التعليم، وهو تحدٍّ ليس لعمان فقط، بل لكل أهل المنطقة، فولوج نقلة نوعية في مسار التعليم الذي يشتكي من تدني مستواه كل المهتمين والمراقبين هو التحدي الكبير في هذه المرحلة من التطور في هذه المنطقة، في الوقت الذي سهل دخول مراحل التعليم بمستوياتها في السابق، لا يستطع أحد أن يتجاوز عدم مواءمة التعليم لسوق العمل المتطور، كما لم يستطع التعليم أن يؤمن مهارات وعقول تنتمي إلى منهج التفكير السليم في تعاطيها لمدخلات السيل الجارف من الأفكار والسلوك الذي تذره العولمة، ودون أن يكون الفرد محصنا بمنهج عقلي يفرز الخبيث من الطيب، يسهل اقتياده إلى ما تشيعه القوى المسيسة كي تأخذه إلى مناطق ليس بالضرورة متوافقة مع الأهداف الوطنية.

لمح السلطان في قضية أخرى إلى بعض إشارات تقول إن القطاع العام عبء على الدولة الحديثة، وأنه يتغذي من ميزانياتها، ولا يسهم بدور فاعل في خدمة المجتمع، فكانت الإشارة في الخطاب إلى أهمية النظر إلى القطاع الخاص، كونه أولا فاعلا وضروريا للتنمية، كما أنه يخلق سوقه الخاصة المستقلة عن الدولة عن طريق فتح فرص عمل للمواطنين، وعليه «زيادة إسهاماته في التنمية»، وهي قضية كما قلت مطروحة في دول الخليج. الدولة لا تستطيع أن توفر كل فرص العمل لكل من يطلبها، ومن هنا فإن العمل في القطاع الخاص هو أحد مكونات العمل التنموي، ولا يتسع هذا المكون ويستوعب اليد العاملة إلا بتشجيعه وفتح فرص الاستثمار أمامه من جهة، وتطوير التعليم والتدريب من جهة أخرى. بالمناسبة، عمان بسبب اتساع رقعتها وتنوع بيئتها وموقعها الجغرافي تقدم فرصا استثمارية فريدة.

أما المسألة الثالثة التي تناولها السلطان قابوس فهي الشباب ودوره، وهي قضية القضايا في مجتمع سريع التطور، وأيضا يتشارك فيها العمانيون مع دول الخليج، فالجيل الجديد له مطالب وتطلعات وآمال، إلا أن تأكيد قيمة العمل المنتج لدى الشباب هو أولوية للدولة وهاجس للمجتمع في الوقت الذي تتراخى تلك القيمة في مجتمع يميل إلى الاستهلاك معتمدا في الغالب على الدولة.

هذه جملة من الانطباعات التي خرجت بها من زيارة سريعة، وجدت أن عُمان الفاعلة بصمت تحقق ما استطاعت المواءمة بين متطلبات عصر سريع في تحركه مع تراث حيوي، إلا أنها أيضا تواجه متطلبات توعوية للتطور، من أهم قضاياها تطوير رأسمال بشري ملائم.

آخر الكلام:

تابعت المؤتمر الصحافي للسيد وزير الخارجية الروسي، مع وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، وانطباعي أن روسيا تريد أكل التفاحة والاحتفاظ بها في نفس الوقت، ترغب في تطوير علاقات اقتصادية، وتمتنع عن اتخاذ موقف إيجابي لإنقاذ السوريين من القتل، وتغلف ذلك الموقف بعبارات مرسلة، وهو أمر لا يرتاح إليه المواطن العربي.