كل إناء بما فيه ينضح.. حتى الفارغ منها

TT

على الرغم من كل ما يحظى به الإنسان من ذكاء فطري ومكتسب فإنه عاجز عن إخفاء ما بداخله. هو في نهاية الأمر إناء ينضح بما فيه كما تقول تلك القاعدة التي لم يشكك فيها أحد حتى الآن. حتى تلك الآنية الفارغة ستدرك على الفور بمجرد الطرق عليها أو تحريكها من مكانها أنها فارغة. أو ربما تعرف ذلك عندما تكتشف أنها تنضح فراغا. لا أحد قادر على إخفاء جوهر ثقافته الخاصة ومنها ثقافة الموت، وهي تلك الثقافة التي تدفع الإنسان لأسباب عديدة إلى الرغبة القوية في الوصول إلى العدم، وهو ما يجعله عدوا لأي كائن حي مستمتع بالحياة بأي درجة من الدرجات. هنا نصل إلى بيت القصيد، وهم هؤلاء الذين تحولوا إلى آنية امتلأت بوحشية يحاولون إعطاءها أسماء جميلة أو يكسبونها قداسة لا تستحقها. أعرف أنه من الصعب عليك تصديق أن هناك من البشر من يكره الحياة إلى الدرجة التي تجعله يعمل على موت الجميع، غير أنني سأحاول في السطور القادمة أن أشرح لك ذلك. لنأخذ المشهد الأول، أحد الدعاة المطالبين بتطبيق الشريعة في مصر قال بانفعال شديد في إحدى المظاهرات ذات الصلة: «لا بد من تطبيق الشريعة.. وماتقوليش مصر.. تولع مصر.. تولع الدنيا كلها».

هكذا وضع تطبيق الشريعة في مصر في جانب واحتراق مصر بل والدنيا كلها في جانب آخر، وعلى الناس أن يختاروا الجانب الذي يرتاحون إليه. والسؤال هو: هل امتلأت نفسه - كإناء - بالرغبة في تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، المطبقة بالفعل، أم هو يرغب في أن يرى النيران وقد اشتعلت في مصر كلها؟ الواقع أنني لا أصدق رغبته الأولى، بل الثانية، وهو ما يذكرني بالمراحل النهائية للحرب العالمية الثانية، وذلك عندما أرغمت الجيوش الألمانية على الانسحاب من فرنسا، عندها أصدر هتلر أوامره للجنرال المسؤول بأن يشعل النار في باريس كلها، غير أن الجنرال كان متحضرا إلى الدرجة التي منعته من ارتكاب هذه الجريمة، فامتنع عن تنفيذ هذا الأمر وأخذ في الانسحاب بقواته، ولساعات طويلة كانت المكالمات الهاتفية تأتي من الفوهرر وهو يصرخ متسائلا: هل تحترق باريس؟

ولم تحترق باريس، ولن تحترق مصر لأن بعض الناس يريدون لها أن تحترق، غير أنني أريدك أن تفكر في المحتوى الفكري للمشهد: «بما أنني فشلت في الحفاظ على باريس وحكم فرنسا والفرنسيين، لذلك أصدر على هذه العاصمة الجميلة حكما بالإعدام».. وفي المقابل يقول الداعية: «بما أنني وبقية الاتجاهات المتطرفة خرجنا من المولد بلا حمص، فالمتاح لنا الآن أن نشعل النار في مصر كلها».. كما ترى، ليست لرغبته الحقيقية صلة بتطبيق الشريعة.

المشهد التالي.. سيدة منتقبة تقول أمام الكاميرات: «سوف نقتلهم جميعا.. الديمقراطيين والعلمانيين والليبراليين.. كلهم هنقتلهم».

لا أحد يعرف هذه السيدة، لذلك هي مطمئنة إلى أن أحدا لن يحاسبها، وربما لا تكون امرأة أصلا، غير أن الشيء المؤكد هو أنها تشعر بلذة خاصة في إعلانها عن رغبتها في القضاء على الآخرين، هي أيضا تريد أن تشعل فيهم النار. من أين داخل العقل تنبع تلك الرغبة في قتل الناس والقضاء على الدنيا؟

أنا أحيلك كخطوة أولى لذلك الأمر الإلهي الذي لا يمكن أن نختلف حول تفسيره «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».. هناك إذن بين البشر من «يريد» أن «يروح» في داهية. غير أنه يفضل أن يصحبه الآخرون إلى هناك. والآن نعود إلى «ما وراء مبدأ اللذة» لفرويد الذي تناولته بالشرح مرارا منذ سنوات.. هناك ميل في العقل للتكرار، وهو ما يصنع اللذة، ومن فضلك لا تتصور أن اللذات هي الحسية فقط، فكل ما يدفع الإنسان للتقدم باعث على اللذة، بما في ذلك البحث العلمي، غير أن مبدأ اللذة ليس له كل السيادة على العقل، لأن هناك غريزة أخرى تعاكسه طول الوقت وهي غريزة الموت، والصراع دائم بينهما. الواقع أن كتابه صغير يمثل محاضرة واحدة، غير أنه يطالب في نهايته بأن نواصل السير في هذا الطريق للتعرف على طبيعة العلاقة بين الغريزتين، لكي نتمكن في نهاية الأمر - إذا كانت له نهاية - من التعرف على الظروف التي ينهزم فيها مبدأ اللذة في مواجهة غريزة الموت. وهنا يصبح الموت (العدم) هو مصدر اللذة داخل العقل.. هنا تتحقق اللذة عندما تشتعل النار في مصر بل وفي العالم كله. لكن ما هي الظروف التي يحدث فيها ذلك؟ متى تصبح لغريزة الموت اليد العليا؟ بمعنى أدق كيف تهزم غريزة الموت مبدأ اللذة، ثم تنتحل عملها؟ الأمر هنا أشبه بمجرم نصاب ينتحل شخصية ضابط شرطة. أريدك أن تتصور شقة سكنية يسكنها شخص مهذب، وفجأة يقتحمها بلطجي يضربه ثم يستولي على الشقة ويخلع اللافتة المركبة على الباب ويضع لافتة باسمه هو.

الجهل، سوء التربية، تربية الطفل في بيئة كئيبة تتسم بالقسوة، الحرمان من العطف والحنان، المدرسون العاجزون عن أن يكونوا قدوة، التخويف الدائم من العقاب في الدنيا والآخرة، كل ذلك يصنع في النهاية شخصا عاجزا قليل الحيلة عديم الكفاءة.. هناك من سينزلق بالطبع بكل وضوح إلى هوة الجريمة، لكن السواد الأعظم سيضعف وينهزم بداخله مبدأ اللذة وتنتصر غريزة الموت. هنا يتحول الموت نفسه إلى رجل أو امرأة. هنا يمشي الموت على قدمين متنكرا في هيئة البشر في الشوارع والطرقات والفضائيات والصحف رافعا أقوى الشعارات، ولأنه عاجز عن قتلك فهو يمارس القتل المعنوي حيث لا دليل عليه، كل ما يشعرك باللذة هو ضده، بدءا من الموسيقى، مرورا بكل إنجازات البشر العلمية إلى جوزة الطيب. مع كل حذرك وانتباهك من أجل أن تكون إنسانا صالحا، سيفاجئك بأنك ارتكبت وترتكب الخطايا، على الأقل أنت تشتري من عند العطار التوابل وفيها مخدر هو جوزة الطيب ثم تأكلها أيها الخاطئ المسكين.. هو أيضا ضد كل قيمة تشعرك بالفخر.. الأهرامات..؟.. أبو الهول..؟ إنها أصنام.. هل توافق على وجود أصنام في أرض الإسلام..؟ لا بد من هدمها جميعا.. نعم سنهدمها جميعا.. لا تناقشني، أنا حاصل على دكتوراه في الشريعة.

بالفعل هو حاصل على دكتوراه، وهو ما يجعله أكثر جرأة في تكفيرك. هو عاجز عن إشعال النار في مصر، لذلك يكتفي بدفع أجيال من السذج إلى احتقار التراث المصري العظيم. إنها طريقة أخرى في إشعال النيران. دعاة العدم يكرهون كل القيم والمثل العليا لأنها تجعل الناس أكثر حبا للحياة، نفس الحياة التي يريدون تدميرها. هم آنية فارغة تنضح بما فيها وليس فيها إلا الفراغ والعدم.