تأملات ومطالب في الذكرى العاشورائية

TT

كاد لبنان يشتعل يوم الأحد 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 بسبب لافتات خاصة درج حزب الله وحركة أمل على تعليقها لمناسبة حلول الأول من محرم. وهذه المناسبة العاشورائية عزيزة على قلوب المسلمين عموما وعلى أبناء الطائفة الشيعية بوجه خاص. وفي الزمن اللبناني الغابر، قبل 30 سنة خلت، ويوم كان حزب الله لم يخرج على الإسرائيليين شاهرا مقاومته وتجاريه حركة أمل لجهة رص الصف الشيعي، كانت مراسم إحياء الذكرى الاستشهادية تتم وفق طقوس متوسطة الحماسة، أو إذا جاز التوصيف كانت تتم في احتفالية تتسم بالهدوء، يحرص رموز الطوائف والعمل السياسي على المشاركة فيها، ويخرج المشاركون وقد باتت مشاعرهم الوجدانية مثل مشاعر أبناء الطائفة الشيعية لجهة الحزن على الذي أصاب سيد الشهداء وبقية أفراد قافلة الاستشهاد. وكان الحزن على الإمام الحسين ومن استشهد من آل البيت عفويا من جانب السني والمسيحي، وذلك لأن ما يقال في المناسبة من على المنبر نثرا أو شعرا كان يوحد المشاعر.

بعد الثورة الخمينية باتت الاحتفالية بالمناسبة العاشورائية ذات طابع تعبوي. وبسبب تأثير الظاهرة الخمينية على جموع الشيعة في بعض الدول العربية، وبالذات لبنان، الأمر الذي يجعل الورقة العاشورائية بالغة الأهمية لجهة التعبئة النفسية السياسية، فإن الطقوس التقليدية الهادئة ماضيا أصبحت طقوسا تعبوية، وبات التعبير عن الأحزان يأخذ طابعا غير مألوف من حيث اللافتات التي يتم رفعها والصور التي يتم تعليقها. وهذا الأسلوب طرح تساؤلات عدة في أوساط أهل السنة، وكذلك في أوساط بقية رموز الأطياف والطوائف التي كانت ماضيا تعتبر المناسبة تخصها بقدر ما تخص أبناء الطائفة الشيعية.

وعندما تمددت الاحتفالية بالذكرى العاشورائية إلى درجة رفع اللافتات والصور في ساحات أو شوارع أو ميادين أو مناطق غالبية سكانها من الطائفة السنية، فإن هذا التمدد بات ذريعة لدى رموز حديثة العهد في ظهورها داخل المجتمع المذهبي الإسلامي، توظفها من أجل تعزيز هذا الظهور، ثم جاءت واقعة صيدا قبل 3 أيام من حلول المناسبة العاشورائية (حلت الخميس الأول من محرم 1433هـ)، لتؤكد حقيقة أساسية، وهي أن رفع اللافتات والصور كان لغرض تعبوي أكثر منه لتعميق مشاعر الحزن على الإمام الحسين. وبدل أن تكون الأيام العشرة ذات طبيعة وجدانية، فإنها تحولت، ونتيجة سقوط قتلى وجرحى، إلى مساجلات سياسية حافلة بأنواع غير مستحبة من المفردات والتحديات الثأرية.

إلى ذلك، فإن ظاهرة رفع اللافتات والصور من جانب «حزب الله» و«حركة أمل»، وكذلك من جانب تنظيمات وحركات مذهبية وحزبية وسياسية مسلمة ومسيحية على حد سواء، كانت في البداية من مستلزمات التعبير في مناخ ديمقراطي يتسم به لبنان. لكن هذه الظاهرة تحولت شيئا فشيئا إلى أنها باتت في بعض جوانبها قنابل موقوتة من شأن انفجار إحداها، على نحو ما حصل في صيدا، أن تشعل حربا، خصوصا أن النفوس معبأة، وأن المذهبية باتت راسخة إلى حد أنه في بعض أوساط أهل السنة وأهل الشيعة في لبنان لا يجوز الزواج من غير الطائفة.

وبالنسبة إلى واقعة صيدا بالذات، فإن دلالاتها تتسم بالخطورة لجهة أن ما هو معلن من نظرة إلى هذه المدينة يختلف عما هو غير معلن. وزيادة في التوضيح نقول إن «حزب الله» يرى ضمنا أن صيدا هي عاصمة «جنوبه»، وأن شأن «جنوب الحزب والحركة» يبقى غير مكتمل ما دامت المدينة الأهم صيدا هي امتداد «بيروت الحريرية». وهذه النظرة كثيرا ما يعبّر عنها الأمين العام «حزب الله» السيد حسن نصر الله بعبارة «صيدا عاصمة الجنوب»، وهو يقصد بطبيعة الحال «جنوبه»، وليس الجنوب المصنف مجرد محافظة وأقضية، أي «الجنوب الدولة» في حال بات تقسيم المنطقة إلى دويلات، بدءا بسوريا وصولا إلى بقية بقاع الخريطة من المحيط إلى الخليج.

بصرف النظر عن هذا الاحتمال، الذي ربما يحدث في بقاء غمضة العيون العربية عما يُرسم للمنطقة على إغماضها، فإن ظاهرة رفع اللافتات والصور في شوارع وميادين ومناطق، وبالذات في عواصم الصراع اللبناني؛ بيروت وطرابلس وصيدا، تستوجب وقفة تأمل من جانب الحكم في لبنان، وبحيث يخضع رفع هذه اللافتات والصور إلى رقابة ومواقف مسبقة، بل وإلى دفع رسوم كتلك التي تجبيها البلديات من الذين يرفعون لافتات دعائية على محلاتهم التجارية. هذا مع مساءلة عفوية من جانب كاتب مثل حالي لإخواننا في «حزب الله» و«حركة أمل» ومعهم عشرات الحركات ذات الطابع المذهبي جلهم من السنة؛ هل من الجائز خلط صور سيد المقاومة ورئيس الطيف الشيعي الآخر مع صور ولافتات يتم تعليقها لنجوم غناء وطرب ورقص وحفلات لمناسبة الأعياد؟ وهل من الجائز اعتبار ذكرى المولد النبوي من جانب حركات مذهبية سنية مناسبة لرفع لافتات كُتبت عليها عبارات اختارها متزمتون، وكان الغرض منها استفزاز الشيعة الذين رفعوا لافتات كُتبت عليها عبارات تعبوية، وجرى تعليقها أو رفعها في غير مناطق الشيعة؟

بطبيعة الحال هذا ليس جائزا. وفي مقدور وزير الداخلية ورؤساء بلديات عواصم الصراع إما التمني على رافعي اللافتات والصور عدم اعتماد هذا الأسلوب، أو إنزال ما يتم رفعه وتعليقه، إنما من جانب أهل الأمن الرسمي، وإرفاق الإنزال بغرامات كتلك التي يتم إنزالها بأصحاب السيارات المخالفة.

وقد يبدو هذا المطلب ساذجا. لكن كيف هو ساذج مع أن حربا كانت ستندلع جرَّاء واقعة صيدا يوم الأحد 11 نوفمبر 2012، بسبب رفع لافتات وصور في غير مكانها الطبيعي، كتلك التي حدثت يوم الخميس 13 أبريل (نيسان) 1975، بسبب حادثة مرور حافلة في شارع منطقة مسيحية، أي في غير مكان طبيعي بالنسبة إلى فلسطينيين عائدين من الاحتفال، واستمرت 15 سنة، إلى أن قيض الله، ثم همة الملك فهد بن عبد العزيز وإخوانه لهم السعي والمثابرة إلى أن حدث اجتراح معجزة التوصل إلى حل من خلال «اتفاق الطائف».

عسى ولعل ما يبدو في نظر البعض مطلبا ساذجا من جانب كاتب هذه السطور يكون موضع تنفيذ. فكما أن أول الحرب كلام فإن ثانيها هو رفع لافتات وصور، وثالثها هو التعامل غير الضابط للمشاعر مع هذه الظاهرة.

ومن باب التمني، نتطلع إلى استعادة طقوس احتفاليات الزمن الماضي بالذكرى العاشورائية، وكفى المؤمنين تداعيات المذهبية.