الديمقراطية التوافقية

TT

التغيير في العراق جاء كما يقول الساسة العراقيون بمفاهيم جديدة لتكريس الديمقراطية وبناء دولة المواطنة والمؤسسات الدستورية، التي يكون فيها الشعب مصدر السلطات وتكون صناديق الاقتراع هي صاحبة القول الفصل في اختيار قادة البلاد، وهذا ما جاء به الدستور الجديد الذي كتبه العراقيون بعد أن عاش العراق عقودا طويلة وهو يرزح تحت رحمة النظام الديكتاتوري السابق.

إلا أننا وجدنا أن النظام السياسي الجديد في العراق بعد التغيير قد تم بناؤه على أساس حكومة الشراكة، والذي يعني مشاركة الجميع في الحكم وفي صناعة القرار بعيدا عن نتائج الانتخابات وبعيدا عن رأي الناخب العراقي وفق ما يسمى بالديمقراطية التوافقية، وهي ديمقراطية جديدة ابتدعتها القوى السياسية لضمان مصالحها ووجودها في السلطة؛ حيث تفرض هذه الآلية إشراك الجميع في الحكومة ومؤسسات الدولة حسب حجم المكون والحزب والطائفة وضرورة توافق الجميع على أي قرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يتعلق بمستقبل البلاد قبل إقراره، الأمر الذي جعلنا نشهد ولادة حكومة مترهلة وبطيئة يحاول كل طرف فيها الدفاع عن حقوق الطائفة والمذهب والقومية التي ينتمي إليها بعيدا عن الهوية الوطنية.

ومن خلال تقييم حقيقي لواقع هذه الحكومة وآلية الديمقراطية التوافقية نقول بأنها لم تتمكن من إنضاج الفكر الديمقراطي لدى النخب السياسية ولم تساهم في ترسيخ المفاهيم الديمقراطية الحقيقية بما يساعدنا في بناء الدولة المدنية الحديثة، بل على العكس من ذلك نجد أن بعض القوى السياسية أصبحت تتمسك بمفاهيم المحاصصة الطائفية لتكون تلك القوى في موضع الدفاع عن وجودها ضمن السلطة أكثر من العمل على تحقيق مسؤوليتها في إدارة الدولة وحرصها على البناء الديمقراطي.

ومن الجدير بالذكر أن تشكيل حكومة المحاصصة (الشراكة) قد تزامن مع ظروف خاصة كان العراق يمر بها - ونقصد هنا عدم استقرار الوضع الأمني وغياب الثقة بين الكتل السياسية - الأمر الذي انعكس على علاقة المكونات الموجودة في المجتمع العراقي، مما جعل القوى الوطنية تقدم تنازلات عن بعض حقوقها والخروج بحكومة يأخذ الجميع فيها حصته بما يتلاءم مع حجمه وحجم مكونه وطائفته في محاولة لبناء أجواء من الثقة بين الشركاء، والمضي معا في طريق بناء العراق من خلال بناء دولة المؤسسات الدستورية وأهمها المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية والتعاون فيما بينها خدمة للشعب العراقي.

ولكن ما حدث بعد ذلك لم يكن كما تم التخطيط له، حيث لم يعمل الجميع بروح الفريق الواحد، فتحول الشركاء إلى خصوم في جميع جوانب العملية السياسية ومعرقلين لكثير من البرامج الحكومية التي كانت الحكومة تسعى إلى تنفيذها عبر السنوات الماضية، فرفع الشركاء راية الاعتراض والعرقلة للمشاريع الحكومية ووقفوا في طريق تشريع القوانين التي تسهم في بناء الدولة، وانعكست المحاصصة سلبيا على عمل مؤسسات الدولة سيما البرلمان الذي أصبح ساحة للصراعات والمساومات السياسية بعيدا عن دوره التشريعي والرقابي.

وقد كانت عملية عرقلة كثير من القوانين في البرلمان العراقي مثالا على تلك الصراعات التي تعكس سياسة الاعتراض التي يتخذها البعض في عرقلة عمل الدولة والحكومة، وتقف في طريق بناء العراق وتسليح جيشه وإعادة بناء البنى التحتية للبلد الذي عانى من الحروب والحصار والتدمير لعقود طويلة وينتظر المواطن فيه دوره في الحصول على الاهتمام والخدمات التي يستحقها.

وبعد فشل الديمقراطية التوافقية وحكومة الشراكة التي أوصلت العملية السياسية إلى مزيد من الأزمات وعرقلة عمل المؤسسات نجد ضرورة مغادرة هذه الآلية والذهاب إلى ممارسات ديمقراطية حقيقية تعكس خيار الناخب عبر انتخاب أغلبية حاكمة وأقلية معارضة على أن تكون الأغلبية بعيدة عن الطائفية وتشمل جميع مكونات الشعب العراقي وتكون أغلبية سياسية وليست طائفية.

من هنا نقول بأننا اليوم أكثر حاجة من أي فترة مضت إلى أن ننعى حكومة الشراكة والذهاب إلى خيار حكومة الأغلبية السياسية، حيث أصبح هذا الخيار يفرض نفسه بعد اقتناع كثير من أطراف العملية السياسية اليوم بهذا الحل من أجل الخروج من الأزمة الخانقة التي رافقت العملية السياسية منذ تأسيسها وضرورة دعم هذا الخيار بالتشريعات التي تسهم في نجاحه وأهمها تشريع قانون الأحزاب وتعديل النظام الانتخابي بما يسهم في إنجاحه بعد فشل خيار حكومة الشراكة.