العالم الخامس!

TT

في مارس (آذار) عام 1974 عندما كان الموقف بين الحكومة العراقية والقيادة الكردية يحث الخطى نحو الحرب، أثار زميل لي شفاها فكرة أخذتها على محمل من الجد تتلخص في إطلاق تسمية العالم الرابع على شعوب كبيرة غير ممثلة في الأمم المتحدة مثل: الكرد والفلسطينيين والأمازيغيين والبلوش والطوارق وعرب الأحواز وغيرهم من الشعوب التي يربو عدد نفوسها على الملايين، ولست أدري أكان زميلي أول من توصل إلى التسمية الاكتشاف، أم أن بعضهم سبقوه إلى ذلك، غير أني سأبقى مدينا له لكثرة استخدامي لتلك التسمية في مقالاتي، في حين لم أسمع عنه استخدامه لها في كتاباته، ومع هذا يعود الفضل له في اهتماماتي بقضايا الشعوب التي تنسحب عليها التسمية هذه.

وحول الشعوب الكبيرة المحرومة من عضوية الأمم المتحدة وتتمتع في الوقت نفسه بشروط القومية من أرض ولغة مشتركة... إلخ ما زالت ذاكرتي تحتفظ بمعلومات عنها، مثل أن عددها يفوق عدد الشعوب الممثلة في الأمم المتحدة، وأن هنالك ما يزيد على 16 أقلية قومية ودينية ومذهبية تقطن دولا بين أفغانستان وموريتانيا، وإذا كان مصطلح (العالم الثالث) قد استقر في المعاجم والكتابات السياسية، ولكي تعمق شعوبه من استقلالها عن العالمين: الرأسمالي والشيوعي، فإنها انتظمت في منظمة حركة عدم الانحياز كدول، بيد أن مصطلح (العالم الرابع) لم يحظ بالعناية كون مضمونه كان ولا يزال موجها أصلا ضد الأمم المهيمنة في العالم الثالث وجراء ذلك فإن شعوبه خاضت ولا تزال حراكا وحروبا مسلحة طال عمر بعضها عقودا من السنين، ولم يحصل إلا القليل منها على الاستقلال مثل الشعوب: ناميبيا وإريتريا وتيمور الشرقية وجنوب السودان، وهذا على سبيل المثال، وما زالت ثورات الكرد والبلوش والحراك السياسي لعرب الأحواز في إيران قائمة، وكذلك ثورة الكرد في تركيا وشعب دارفور في السودان... إلخ. واستدرك بأن من الإجحاف بحق شعوب العالم الرابع تسميتها بالأقليات، إذا علمنا أن شعوبا فيه يتجاوز عدد أفرادها بعشرات المرات عدد أفراد الشعوب المنضمة إلى الأمم المتحدة. ولأسباب عدة ما زالت مطالب شعوب العالم الرابع تعترضها الصعوبات والعقبات، بسبب عدم اكتراث الأمم المتحدة بها والتي كان جديرا بها أن تشكل لجنة لتصفية هيمنة الأمم الحاكمة في دول العالم الثالث على أمم العالم الرابع وتعين سقفا زمنيا لتحريرها، أسوة بتشكيلها للجنة (تصفية الاستعمار) في مطلع الستينات من القرن الماضي. وبفضل تلك الخطوة نالت العشرات من الشعوب استقلالها.

في النصف الأول من العقد التاسع للقرن الماضي دعي إلى عقد مؤتمر للأقليات في الدول العربية بمدينة القاهرة بغية الوقوف على تطلعاتها ومعاناتها، إلا أن رموزا مصرية معروفة حالت دون عقده في العاصمة المصرية وكان من بين المعترضين محمد حسنين هيكل وإبراهيم نافع والبابا شنودة، مما أدى إلى عقده في قبرص. وإن لم تخني الذاكرة فقد انتقد الكاتب السياسي المعروف حازم صاغية منع انعقاده في القاهرة.

كاتب هذه السطور بدوره، كان قد دعا في مقال نشرته العشرات من الصحف الإلكترونية، إلى عقد مؤتمر للأقليات الكردستانية العراقية حصرا، وبين أهميته ومردوده الإيجابي لإقليم كردستان، لكن دعوتي لم تلق آذانا صاغية من لدن المتنفذين. وفوجئت قبل أسابيع بتنظيم لقاء أو تجمع لممثلي الأقليات العراقية والكردستانية بمدينة السليمانية للتباحث في أوضاع الأقليات العراقية والكردستانية، وحضره ممثلون عن المسيحيين والإيزيديين والتركمان والصابئة والكاكائية وغيرهم، وأسفر اللقاء عن إدانة للحكومة العراقية لسوء أوضاع الأقليات في مناطق نفوذها وبالذات في الجنوب من العراق. وإذا كان ذلك اللقاء قد استثنى الكرد الذين لا يشكلون أقلية في العراق لذا أرى أنه آن الأوان لإضافة مصطلح آخر إلى المصطلحات المذكورة، ألا وهو (العالم الخامس) عالم الأقليات التي لا يزيد عدد أفرادها على النصف مليون، ونادرا ما يتجاوز المليون، ولا تتمتع بشروط القومية التقليدية، أو صيغة حكم كالحكم الذاتي مثلا، على الرغم من أن عددا منها قد يفوق عدد أفرادها عدد أفراد كثير من الدول المنضمة إلى الأمم المتحدة. ومما لا شك فيه أن شعوب هذا العالم مضطهدة بدورها، وتتناقص أعداد أفرادها باستمرار، فالمسيحيون العراقيون الذين كان عددهم في العقود السابقة قد بلغ المليون ونصف المليون نسمة، فإن عددهم الآن دون النصف مليون، وفي الجنوب العراقي يتقلص حجم الصابئة بشكل لافت، حتى إن المئات منهم هاجروا إلى كردستان والأقطار الغربية. إن قضية الأقليات التي ينسحب عليها مصطلح العالم الخامس باتت تلح على الحل عراقيا وإقليميا وعالميا، وبالأخص في العراق، فعلاوة على اللقاء أو التجمع المذكور، وفي أحدث تطور فيها، (القضية) الدعوة إلى عقد (المؤتمر الأول لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق) والمزمع عقده في السليمانية أيضا وفي اليومين الـ21 والـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، ومن المؤمل أن تحضره جمهرة غفيرة من الكتاب والباحثين ونشطاء منظمات المجتمع المدني، ولا أخال أن يكون هذا المؤتمر الأخير من نوعه، طالما تقوم منظمات المجتمع المدني وشخصيات سياسية وبرلمانية بدعم حقوق هذه الأقليات ومع ذلك يظل تأثيره محدودا إن لم تقم الأمم المتحدة أو الدول من أصحاب القرار بتبنيه عبر تشكيل لجان أو هيئات دولية وأممية تنهض بتصفية هيمنة أمم العالم الثالث ليس على شعوب (العالم الخامس) فحسب بل شعوب العالم الرابع أيضا. ولي الفخر في أن أكون أول من صاغ مصطلح العالم الخامس.

* كاتب سياسي - العراق