انتهى عهد الثراء السريع

TT

تعزز أخبار العالم في هذا الأسبوع من وجهة نظري الخاصة بأن القضايا لا تنتهي عندما يتوقفون عن تقديم نشرات الأخبار على مدار الساعة، حيث ستستمر الحياة بخيرها وشرها أيا كانت الظروف. نحن مسؤولون عن إتاحة الفرص أمام المستثمرين الذين يتطلعون نحو فرص استراتيجية طويلة الأمد في ظل هذا العالم الذي يتعافى بصورة تدريجية، فجني الثروات السريعة والسهلة باتت جزءا من الماضي.

وكما توقع الجميع، تأكدت بالفعل موجة الركود المزدوج التي تعصف بمنطقة اليورو بعد التحذيرات التي أطلقها «البنك المركزي الأوروبي» من أن الوقت ينفذ أمام محاولات حل الأزمة، حيث تشير أحدث الأرقام في هذا الصدد إلى أن البلدان الـ17 الأعضاء في العملة الأوروبية الموحدة قد انزلقوا جميعا إلى موجة الركود المزدوج.

ومن دون أدنى شك، تعاني بعض الأجزاء من منطقة اليورو بشدة من تباطؤ النمو وارتفاع مخيف في مستويات البطالة وتدهور مستويات المعيشة. تشير حقيقة انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو حتى في الوقت الذي شهد ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في كل من ألمانيا وفرنسا إلى انخفاض النشاط بصورة سريعة للغاية في بعض الاقتصادات الصغيرة في المنطقة. لقد تم توثيق المشاكل التي تعاني منها اليونان وإسبانيا والبرتغال بشكل جيد للغاية، ولكن مبعث القلق في الأرقام التي تم الإفصاح عنها يوم الخميس الماضي يكمن في الانكماش الذي شهدته الاقتصادات «الرئيسية»، مثل النمسا وهولندا، في الربع الثالث من العام الحالي. أما بالنسبة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فالرسالة المقلقة حقا في البيانات الصادرة مؤخرا هي انتقال العدوى من دول الأطراف إلى دول القلب.

كانت إحدى الأسئلة المهمة التي طرحت في الندوة التي نظمها «مركز الإصلاح الأوروبي» في الأسبوع الماضي واستمرت ليومين هي: ما هي الدولة التي تحمل مفتاح مصير الاتحاد الأوروبي؟ من هي «الدولة المحورية» من بين الدول الـ17 الأعضاء في الاتحاد التي سيدور حولها مستقبل منطقة اليورو؟

ومنذ عامين تقريبا، ربما كنت ستقول إن اليونان هي الدولة المحورية في الاتحاد الأوروبي، ولكنك إن طرحت نفس هذا السؤال في الآونة الأخيرة، ستكون «إسبانيا» هي الجواب. وعلى الرغم من ذلك، فإن إسبانيا ليست هي المسؤولة عن الديون السيادية التي تبلغ 57 في المائة والتي تعاني منها اقتصادات منطقة اليورو المتعثرة. وبالطبع إيطاليا هي الأخرى ليست هي المسؤول عن ذلك.

ربما يقول المرء أين هي ألمانيا من كل ما يحدث الآن، فعلى الرغم من أي شيء، لقد اعتدنا على القول بأن ألمانيا هي التي تحمل مستقبل منطقة اليورو بين أيديها. ولكن فكرة الدولة المحورية تتجاوز القوة المطلقة أو الوزن الاقتصادي، فليس من الضروري أن تكون الدولة المحورية هي الدولة الكبرى، ولكنها قد تكون نقطة الارتكاز التي تساعد على تغيير مسار التاريخ من اتجاه إلى آخر.

أسمع كثيرا من المستثمرين وصناع السياسات يتحدثون عن دولة كبيرة أخرى مرارا وتكرارا على أنها الدولة المحورية في أوروبا. إنها ليست ألمانيا، وإنما فرنسا، حيث باتت الحكومة تهيمن على الاقتصاد الفرنسي بشكل أكبر بكثير مما كان الوضع عليه منذ 30 عاما، وبخاصة مع ارتفاع الإنفاق الحكومي ليصل إلى 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي والاتجاه نحو زيادة الضرائب أولا والحديث عن خفض الإنفاق لاحقا. يعتقد كثير من المستثمرين الدوليين أن الطريق الذي تنتهجه فرنسا ليس هو الطريق السليم.

لازلت عند رأيي بأن منطقة اليورو ستنجو من هذه الأزمة، ولكن السؤال الرئيسي هو ما إن كانت ستتحول إلى اقتصاد مرن يتمتع بانضباط مالي أو اتحاد نقدي أكثر مرونة. وأيا تكون النتيجة، كانت بريطانيا على صواب عندما لم تستجب للضغوط التي مورست عليها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ عقد من الزمان. لا تعاني بريطانيا من الركود في الوقت الحالي، ولكن «بنك إنجلترا المركزي» قام بتخفيض توقعاته للنمو في العام المقبل من 2 في المائة تقريبا إلى نحو 1 في المائة، مؤكدا أن الانتعاش سيكون «بطيئا وسيستغرق وقتا أطول». وعلى الرغم من ذلك، فهناك سياسة اقتصادية قوية في بريطانيا.

تهدف السياسة الاقتصادية للحكومة الإنجليزية إلى تحقيق نمو قوي ومستدام ومتوازن، حيث تنوي الحكومة جعل المملكة المتحدة المكان الأفضل في القارة الأوروبية لبدء وتمويل ونمو الأعمال التجارية وتشجيع الاستثمارات والصادرات كسبيلها الرئيسي نحو اقتصاد أكثر توازنا وخلق المزيد من القوى العاملة المتعلمة، والتي تعد الأكثر مرونة في أوروبا.

يمكننا معرفة المزيد من بيان الخريف لعام 2012 والذي سيلقيه وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن يوم الأربعاء 5 ديسمبر (كانون الأول) في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا، حيث سيتضمن البيان أحدث المستجدات الخاصة بخطط الحكومة الاقتصادية المبنية على آخر التوقعات الصادرة عن «مكتب مسؤولية الموازنة» البريطاني.

تعتبر سياسة الاقتصاد الكلي تلك أمرا شديدة الأهمية بالطبع، ولكن الأعمال أبلغ تأثيرا من الكلام. ولكنني أميل للنظر إلى ما يقوم به رجال الأعمال الناجحون مثل لاكشمي ميتال، وهو أغنى رجل في بريطانيا وقطب صناعة الحديد والصلب في العالم، والذي قام بعقد أولى صفقات الاستحواذ الخاصة به في المملكة المتحدة بعد الموافقة على شراء أحد أكبر مصانع الخرسانة في البلاد في صفقة وصلت قيمتها إلى 272 مليون جنيه إسترليني، بالشراكة مع «لافارج» الفرنسية و«تارماك» الإنجليزية.

وفي صفقة تعد بمثابة تصويت بالثقة في الاقتصاد البريطاني، سوف يستحوذ ميتال على 172 مصنعا للخرسانة الجاهزة و5 محاجر فضلا عن مصنع «هوب» للإسمنت في ديربيشاير. قال المتحدث الرسمي باسم ميتال: «نحن واثقون من النمو المستقبلي لاقتصاد المملكة المتحدة، ولا سيما قطاع البناء والتشييد. وبينما تخرج بريطانيا من موجة الركود، نتوقع حدوث انتعاش في نشاط البناء».

تتزايد الاستثمارات القادمة من منطقة الشرق الأوسط في بريطانيا على مدار الأعوام الخمس الماضية، حيث تقود صناديق الثروة السيادية في قطر وأبوظبي هذا الاتجاه.

شهدت الآونة الأخيرة عقد بعض الصفقات لبناء الثقة في الاقتصاد البريطاني، حيث قامت «هيئة أبوظبي للاستثمار»، وهي أكبر صندوق سيادي في العالم، بالاستحواذ على حصة في مطار غاتويك، بينما استحوذت «مؤسسة قطر القابضة» على نسبة 20 في المائة من مطار هيثرو في الصيف الحالي.

يذكر أن المشترين الأجانب القادمين من القارة الآسيوية أو منطقة الشرق الأوسط، الذين ينصب تركيزهم في العادة على شراء مكاتب في وسط مدينة لندن، قد بدأوا يصبحون أكثر نشاطا في تحديد الفرص المتاحة في بريطانيا فيما يتعلق بجودة الاتفاقات ومدة فترات الإيجار. تستمر وحدات الخدمات اللوجيستية المعدة جيدا، التي توفر مصادر دخل آمنة، في اجتذاب نسبة كبيرة من اهتمامات صناديق الثروة السيادية والمستثمرين من القطاع الخاص على حد سواء.

يعتبر «صندوق ستيرلنغ المملكة المتحدة العقاري»، المعروف اختصارا بـ(SURF) أو (الصندوق)، وهو شراكة بين شركة «سدرة المالية السعودية» وبنك غايتهاوس، مفتوحا أمام المستثمرين البريطانيين والأجانب ويهدف إلى توزيع نسبة أرباح سنوية تقدر بنحو 7 في المائة. أعلنت شركة «سدرة المالية»، وهي شركة خدمات مالية مرخصة من قبل هيئة السوق المالية السعودية ومتوافقة مع الشريعة الإسلامية ويقع مقرها في المملكة العربية السعودية، وبنك غايتهاوس، وهو بنك خاضع لرقابة «هيئة الخدمات المالية البريطانية» ومتوافق مع الشريعة الإسلامية ويقع مقره في المملكة المتحدة، عن استكمال ثاني صفقة استحواذ لهما في «صندوق ستيرلنغ المملكة المتحدة العقاري» بقيمة 22.4 مليون جنيه إسترليني.

يأتي أحد الخيارات الهائلة والآمنة الأخرى من الأنباء المتواترة حول خطط تأمين الطاقة الكهربائية في بريطانيا للأعوام الـ20 القادمة، والتي من المقرر أن تقوم الحكومة بنشرها في وقت قريب. يتوجب على بريطانيا الموازنة بين الحاجة إلى توليد طاقة كهربائية جديدة مع الالتزامات الخاصة بتخفيض معدلات انبعاث الكربون في المستقبل وتوليد المزيد من الطاقة من المصادر المتجددة. تقدر الحكومة أن استبدال وتحسين جودة البنية التحتية للكهرباء سوف تكلفها 110 مليارات جنيه إسترليني على مدار العقد القادم.

وقد أشرت من قبل إلى أن المملكة العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي يهدفون لتطوير بعض الحلول المستدامة فيما يتعلق بمتطلبات الطاقة الخاصة بهم في العقود القادمة، بينما تقوم بريطانيا بهذا الأمر في الوقت الراهن. لقد ناقشنا منذ بضعة أسابيع موضوع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وكيف من الممكن أن تسهم مثل هذه المشاريع في تحقيق العدالة في هذه البلدان، حيث يجب أن نتعلم من قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة المزدهر في بريطانيا.

أما الآن، ومع ثقة رجال الأعمال الناجحين، مثل ميتال، في شراء حصص في قطاع صناعات الإمداد التي ستقوم ببناء البنية التحتية الجديدة في بريطانيا، ومع الاستثمارات التي تضخها صناديق الثروة السيادية، فالوقت الآن مناسب للغاية للاستثمارات الاستراتيجية طويلة الأمد في بريطانيا.

إن وقت جني الأرباح الفورية القصيرة قد شارف على النهاية، وهو الأمر الجيد للغاية.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال».