من يحاسب «المقاومة»؟

TT

في كلمة له أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1995، أبدى إسحاق رابين الذي كان رئيسا للوزراء، واغتيل في العام نفسه، انزعاجه من تزايد التهديدات الأمنية القادمة من قطاع غزة، وحذر ـ حينها ـ من ظاهرة العمليات الانتحارية التي كانت قد بدأت قبل ذلك بعام، على خلفية الهجوم الإرهابي على الحرم الإبراهيمي (فبراير/ شباط 1994)، وفي إشارة إلى يحيى عياش، وهو شاب إخواني اعتبر العقل المدبر للعمليات الانتحارية ضد المدنيين، وظل شبحا يؤرق السلطات الإسرائيلية، قال رابين: «أخشى أن يكون (عياش) جالسا بيننا في الكنيست».

بإزاء التطورات التي تجري اليوم في غزة، حيث اندلعت معركة بالصواريخ بين حركة حماس وإسرائيل، ينبغي الرجوع إلى التاريخ الحديث للصراع من أجل فهم أدق لما يجري.

فكرة إرهاب العدو التي يستخدمها اليوم قادة حماس تبريرا لما يتعرض له مواطنوهم العزل من حرب غير متكافئة، ولدت قبل أكثر من عقدين من الزمن، حين قرر يحيى عياش ـ الملقب بـ«المهندس» ـ وزملاؤه في «اللجنة العسكرية الإخوانية»، التي سميت لاحقا بـ«كتائب عز الدين القسام»، أن الطريق الأقصر إلى تحرير الأرض المحتلة، هو في اللجوء إلى الوسائل الانتحارية لإلحاق أقصى ضرر بالحياة المعيشية للخصم. كان عياش شابا فلسطينيا قد انضم إلى جماعة الإخوان أواخر الثمانينات، ودرس في جامعة بير زيت، حيث تنشط التنظيمات السياسية، وبعيد تخرجه تقدم للعمل في إحدى الدول الخليجية، قبل أن يتم رفض طلبه من السلطات الإسرائيلية، وفي ظل ظروف معيشية صعبة، وتنامٍ كبير للحركة الإسلامية، بفضل الانفتاح الذي جاءت به اتفاقية أوسلو، تحول عياش إلى مهندس للعبوات الناسفة، وبين أعوام 1992 ـ 1996 تسببت عملياته بمقتل وجرح المئات من الإسرائيليين مدنيين وعسكريين، ولكنها في المقابل حصدت مئات الفلسطينيين في عمليات انتقامية، قامت بها جماعات إسرائيلية متطرفة، أو نتيجة للإفراط في استخدام القوة من قبل السلطات الإسرائيلية.

الهدف المعلن لعياش كان إرهاب الإسرائيليين، وزراعة الرعب في قلوبهم، ولكن الهدف الحقيقي لحركته (حماس) كان إفشال اتفاقية أوسلو بتوجيه ودعم سوري ـ إيراني. لقد تم اغتيال عياش عبر تفجير الهاتف الجوال الذي كان يتحدث به في يناير (كانون الثاني) عام 1996. ويعترف محمود الزهار القيادي بالحركة أن كمال حماد الذي تورط في عملية الاغتيال، كان عضوا في حماس حتى انكشفت صلته بالشين بيت (داخل حماس، زكي شهاب، آي بي تورس 2007).

لقد مضى على استخدام حركة حماس للعمليات الانتحارية قرابة العقدين، فماذا كانت النتيجة؟

نفذت الفصائل الفلسطينية ما يزيد على 170 عملية حتى نهاية عام 2008. قتلت فيها ما يزيد على 800 إسرائيلي، ولكن في المقابل تسببت تلك العمليات برد فعل ذهب ضحيته ما يزيد على 7500 فلسطيني، أي أنه كانت تتم التضحية بمائة فلسطيني لكي يقتل فرد إسرائيلي واحد.

في تقرير دولي تناول أثر الانتفاضة الثانية على الفلسطينيين، لم تسقط إلا أعداد قليلة من الفلسطينيين في الأسابيع الأولى من مظاهرات عام 2000، التي كان يراد لها أن تستعيد انتفاضة 1987. ولكن قرار حماس وغيرها من الفصائل عسكرة الانتفاضة عبر استخدام العمليات الانتحارية، كلف الفلسطينيين ما يقارب ألفي قتيل خلال أقل من عامين (الانتفاضة الثانية: اتجاهات رئيسية، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أغسطس/ آب 2007).

للأسف، جماعة أصولية مثل حماس لا تكترث للخسائر الإنسانية، فهي ما تزال تراهن على أن إرهاب العدو كفيل بتغيير شروط المواجهة، ولكن من يراجع مكاسب المرحلة الماضية وخسائرها يجد أن الحركة عملت على الوصول إلى السلطة عبر انتخابات سلطة أوسلو، وأظهرت علنا انتماءها إلى المحور السوري ـ الإيراني. لقد استعارت حماس أسلوب حزب الله اللبناني وطريقته حيث كان ـ ولا يزال ـ يصف عملياته بالانتصارات الإلهية رغم حجم الخسائر البشرية، والخراب في البنى التحتية، ناهيك عن اختطاف سيادة الدولة، وارتهانها للولي الفقيه.

في مؤتمره الصحافي من القاهرة (الاثنين الماضي)، تباهى السيد خالد مشعل ـ رئيس المكتب السياسي لحماس منذ 1996 ـ بمقاومة حركته للهجوم الإسرائيلي، وبعد أن رسم ابتسامة على وجهه، قال بأن إسرائيل هي من تطلب الهدنة وليس أهالي غزة، رغم سقوط مائة قتيل فلسطيني، وتدمير ما تبقى من البنى التحتية المتهالكة. ما يلفت الانتباه في حديث مشعل هو إشارته إلى أن المنطقة تغيرت بعد «الربيع العربي»، مطالبا بعض الدول بمراجعة مواقفها.

ربما يكون هذا مطلبا مشروعا، ولكن متى تراجع حماس تجربتها في «المقاومة»؟

للأسف، ارتبطت حماس تحت رئاسة مشعل بعلاقات وثيقة مع رجال مثل بشار الأسد، وحسن نصر الله، والقذافي، وعماد مغنية، وآخرين لا يقلون سوءا، وعوضا عن أن تكفر الحركة عن خدمتها للمحور السوري ـ الإيراني، يريد البعض في حماس أن يستمر خطاب «المقاومة» الزائف حتى بعد انكشاف حجم الجرائم التي ارتكبت باسمه. مشعل توعد من الخرطوم بالانتقام للسودان من الضربة الإسرائيلية التي استهدفت التسليح الإيراني الذي يهرب من هناك، وباعتراف إعلام حزب الله نفسه، بل اعترف عدد من شخصيات حماس بأنهم يستخدمون صواريخ «فجر 5» التي زودوا بنموذجها على الأرجح من إيران عن طريق حزب الله.

يحاول بعض الإسلاميين من «الإخوان» في مصر والخليج تقديم خطاب اعتذاري لحماس، زاعمين أن الحركة تخلت عن نظام بشار الأسد بعد الانتفاضة، ولكن هناك مؤشرات تدل على أن الحركة لم تقطع علاقاتها بالضرورة مع النظام الإيراني، أو حزب الله، ومع افتراض أن هذا الطلاق حقيقي، أليس من المفترض إجراء مراجعة لسجل قادة الحركة، الذين رهنوا الملف الفلسطيني لأجندة ذلك المحور؟

ليس ثمة من شك في أن المنطقة شهدت تغيرا، كما أشار مشعل، ولكن الحقيقة أنه ليس جزءا من هذا التغير، بل إن خطابه ومنطقه «المقاومين» يفترض أنهما ينتميان إلى حقبة الماضي. ففي كلمة له أمام مؤتمر حزب العدالة والتنمية التركي الشهر الماضي، قال مشعل: «لا تعارض بين أن نتبنى الديمقراطية والإصلاح وبين دعم المقاومة». ولكن من الواضح أن هذا القول يتعارض مع تحالف حماس مع نظامين امتهنا حقوق مواطنيهما، ومارسا العنف ضدهم.

ليس من قبيل المصادفة أن جماعة الجهاد التي دأبت على تخريب الهدنة في غزة ممولة إيرانيا، وفي الوقت الذي تلاحق فيه حماس الجماعات السلفية في غزة، فإنها لم تدن بتاتا صواريخ تلك الجماعة، بل يتحدث قادتها عن نصر «نوعي» يحققونه عبر تلك الصواريخ. لا شك أن إشعال جبهة غزة يخدم بشكل مباشر صرف الانتباه عما يجري في سوريا، حيث يقتل كل يوم منذ عامين أكثر من ضحايا غزة حتى الآن. ليس هذا تقليلا من أرواح أولئك الضحايا، ولكن من يريد الاهتمام بضحايا غزة فعليه الاهتمام كذلك بضحايا سوريا الذين يسقطون على أيدي حلفاء حماس بالأمس القريب. وهذا عطفا على ما حذر منه المرشد الإيراني آية الله خامنئي، وكذلك حسن نصر الله، فيما يتعلق بتسليح المعارضة السورية في الوقت الذي يتباهى فيه حزب الله بدعم «مقاومة» حماس بالسلاح.

لقد ارتكب قادة «المقاومة» أخطاء جسمية بحق السلم الإقليمي، وتسببوا بدمار غير مسؤول لدول المنطقة، وارتهنوا مستقبل الفلسطينيين لصالح أنظمة سيئة، ورغم ذلك لم تجرِ أي مراجعة، بل شخوصها اليوم باتوا زعماء على حساب دماء المدنيين العزل.

في واحدة من حواراته الأخيرة، قال عياش: «قنابلنا هدفها أن تجعل الاحتلال (الإسرائيلي) أكثر تكلفة على الصعيد الإنساني، حتى لا يطيقها العدو». بيد أن النتيجة بعد كل تلك السنوات باتت عكسية، الحياة بالنسبة للفلسطينيين أصبحت لا تطاق، فيما أمضى قادتها «المقاومون» أيامهم في ضيافة دمشق والضاحية الجنوبية.