موسم الهجرة للشمال

TT

ما أنا بناقد وما هذه المقالة بنقد جديد يقال عن رواية صديقي المرحوم الطيب صالح. ولكنها عن الهجرة للشمال. كنت قد كتبت واقترحت على أي حكومة في مصر أن تضيف الهجرة للخارج إلى برنامجها الاقتصادي الوطني وتعالج الفائض السكاني بتشجيع الهجرة للخارج تخلصا من هذه الزيادة من الشبان المشاغبين والمخربين، وأملا في أن يجودوا على بلدهم وأهلهم بشيء من كسبهم بدلا من تبذيره على الغواني والقمار.

أعطيت المواصفات الكاملة لهذا المشروع، وهي أن يجري تعليم أولاد المدارس لغة أجنبية بدلا من اللغة العربية، والتاريخ الأوروبي بدلا من التاريخ العربي، وتعليمهم الحرف والمهن والفنون الرائجة في الغرب.. الموسيقى والرقص وطبخ «الفش آند شبس» وسواقة السيارات حسب النظام، ونحو ذلك من سنن الحياة في المجتمعات الغربية. يدربون معدتهم على أكل البوريغ بدلا من الكشري، والبزليا بدلا من الفول، والبطاطا بدلا من الطعمية بالخبز والبعدنوس.

كنت في أكثر ذلك أكتب في إطار الدعابة والفكاهة وأمازح المسؤولين في مصر. ولكن يلوح لي أن القوم في العراق قد قرأوا ما كتبت، وعلى عادة العراقيين أخذوا الهزل في محمل الجد. ورغم أنهم لا ينتصحون بنصيحة أحد ولا يصدقون ما يقرأون فإنهم أراهم قد صدقوا كلامي، وهو ما لا أتوقعه منهم قط. وهكذا فقد قيل لي مؤخرا إن الكثير من عوائل الطبقة المتوسطة في بغداد والمدن الرئيسية الأخرى أخذت تشعر من باب الحرص على مستقبل أولادها وسعادتهم بأن العيش في هذا البلد وبلدان المنطقة لم يعد مؤهلا لإعطائهم حياة كريمة وهنيئة.. أخذوا يعدون أبناءهم وبناتهم منذ ولادتهم للهجرة والعيش في الغرب. راحوا يؤكدون على تعليمهم اللغة الإنجليزية بدلا من اللغة العربية، والتكنولوجيا والعلوم الحديثة وما كتبه تشارلز داروين عن نظرية التطور. يفرجونهم على الأفلام والكليبات التي تصور حياة الأوروبيين والأوروبيات. سمعت أن بعضهم عمدوا إلى تعليم بناتهم رقص الباليه، وأولادهم عزف موسيقى البوب على الغيتار وغناء أغاني البيتلز. لا يرتكب الطفل أي خطأ إلا وضربوه وأصروا عليه أن يقول «سوري»، ولا يتناول قطعة كعك إلا بعد أن يقول «إكسكيوز مي». يؤكدون على ابنتهم الصغيرة: يا بنت، افعلي أي شيء في بلاد الغرب، ولكن احذري أن تنسي كلمات «سوري» و«باردون»، و«ثانك يو»، و«إكسكيوز مي».

وأثناء ذلك تكون الأسرة قد أودعت في البنوك الغربية توفيرات كافية من راتب الأب وسرقاته ورشاه وكل ما تيسر في بلد خربان، ويكفي للهجرة والعيش في الغرب.. كندا أو إنجلترا أو السويد أو أي بلد يفتح لهم أبوابه ويمدهم بالمساعدة الاجتماعية كلاجئين من الاضطهاد يستحقون العطف الإنساني.

تمر الأعوام فيوفق هؤلاء الوافدون إلى تخريب حياة الغرب.. كندا أو إنجلترا أو السويد، كما خربوا بلادهم، فنحقق حلمنا بالمساواة مع الغرب بجره إلى مستوانا من الخراب!