هند.. ليلى.. خولة

TT

تتشابه القرى والطفولة والمخيلات في كل مكان. لا أقصد أجيال اليوم، فلم تعد هناك قرى، ولم تعد ثمة حاجة للمخيلة. لكن في أجيالنا كانت القرى قليلة الأشياء، كثيرة الأطفال، غزيرة المخيلات. كنا نتخيل السيارات السريعة والبنايات العالية والسفن والبحار. وفي الليل نحلم بالحلاوة الطحينية وراحة الحلقوم، ولم تكن الزبدة ضرورية لأننا لم نكن نعرفها حتى بالشهرة.

أقرأ عن طفولة الشاعرة الأميركية مايا أنجيلو في «أعرف لماذا يغني العصفور الذي في القفص»، وكأنني أقرأ شيئا من طفولتي. طبعا لسنا الجنوب الأميركي، ولم يكن لدينا تمييز عنصري مقيت ومعيب فظ، لكن الطفولات تتشابه.. الأحلام الصغيرة، وتعوُّد السكينة، وإدمان الهدوء، و«البيوت المتناثرة في الحقول المهملة». لا مفاجآت في القرى، لأنها تولد عادة تحت برج النسيان. لا شيء، لا أحداث، إلا من عرس بين فقيرين، وبين عام وآخر.

لا يكون من معالم العرس شيء، سوى ما بين المعرسين. الباقي أطفال يتبادلون حكايات المخيلة عن مباني المدينة وسياراتها. وكل واحد يحاول أن يرفع بنايته أكثر من بناية سواه، فتصل أحيانا إلى مقربة من النجوم. والنجوم كانت الكثرة الوحيدة والوفرة المجانية. وكل ليلة نحصيها، ثم نعود مساء اليوم التالي لكي نعدها ونتأكد أنها لا تزال في مكانها. وكنا نعطيها أسماء ليست من الفلك، بل من عالمنا الصغير الذي يبدو في ذلك الوادي مثل قفص مفتوح تغني فيه العصافير، ويغني على أطرافه الرعيان، وتثغو الحملان لكي تزيد المكان وداعة والناس استسلاما للهدوء ورتابة القرى.

شعرت قبل نحو عامين بشيء من القربى مع صحافي سعودي شاب كتب (لعله في «الجزيرة»، أيتها الذاكرة المحتشدة بما هو جميل وبما لا يطاق) عن مايا أنجيلو و«أعرف لماذا يغني العصفور الذي في القفص». أنا أعرف لماذا أعود دائما إلى عزيزتي مايا، ولكن ماذا عنك أيها الشاب السعيد الذي لم يولد في قرى الجنوب الأميركي ولا في قرى جنوب لبنان.. هل عرفت حقا ماذا تعني حياة الأقفاص التي لا شيء فيها سوى الغناء؟

لم تكن في قرانا مرارة مثل مرارة الأطفال السود في «ستامبس». لم تلغ القلة، الكرامة شبه المطلقة. لم يلغ الفقر الحشمة والأدب وحفظ الذات، مهما أساء إليها الزمان. محزنة ومؤلمة كانت الطفولة في ستامبس. لكن المخيلة كانت العزاء العابر. تلعب بين الحقول وتتخيل مبنى عاليا يناطح السحاب ويهزمه. وكل ما تملك هو النجوم التي تعدها قبل النوم لكي تتفقدها في أمكنتها في اليوم التالي بأسمائها: هند، ليلى، خولة. لقد قرأت الشعر الجاهلي مبكرا يا ولد.