بين الرأي والحقيقة نستنزف طاقاتنا!

TT

أكاد أجزم بأن أكثر ما يستنزف طاقات الناس في حواراتهم الساخنة هو عدم إدراكهم للفارق بين الرأي والحقيقة. والناظر إلى برامجنا الحوارية التلفزيونية واللقاءات الاجتماعية غير الرسمية يسمع نقاشا محتدما يقيم الدنيا ولا يقعدها ثم يكتشف أن المتحاورين لا يفرقون بين الحقيقة المسلم بها وبين الرأي العرضة للقبول والرفض. فعندما يبني شخص ما حواره على معلومة يؤكد فيها، مثلا، أن «دمشق عاصمة مصر» هنا يجب أن أوقفه لأصحح له معلومة حتى لا ينشأ الحوار على معلومة رئيسية غير صحيحة أو ما يسميه الإنجليز الـ«Key Information»، أما إذا قال إن «دمشق أجمل من القاهرة» فهو هنا يتحدث عن رأيه قد أتفق معه، بعد تقديمه للدلائل، وقد لا أتفق معه، لأنه في النهاية مجرد رأي.

وأكثر حواراتنا هي آراء تحتاج إلى آذان مصغية تحترم المتحدث وحقه في التعبير عن رأيه بأريحية. فنحن للأسف الشديد لم نتعلم في مدارسنا هذا الفارق المهم، ولذا حرصت على تعليم ابني الصغير الفارق بين الرأي والحقيقة بعد أن رأيته يكاد يتعارك مع أخيه الأصغر الذي أبدى رأيا مخالفا له في موضوع ما، لكنه لم يقدم معلومة خاطئة عن حقيقة. فقلت له، الحقيقة (Fact) هي عندما يقول لك أحد، إن «مدرستك تقع في المنطقة الفلانية»، أما الرأي (Opinion) فهو حينما يقول لك «إن مدرستنا أفضل من مدرستكم». هنا يمكن أن تطلب منه الدليل فلك أن تؤيد رأيه أو تعارضه، ولكن لا يجوز لك أن تسفهه أو تتندر عليه لأنه يبدي رأيه، فقد يأتي يوم تتعرض فيه للموقف نفسه.

وهذا الفارق الجوهري لا يبدو واضحا لدى كثير من البالغين من أمتنا، لا سيما في غمرة النقاشات المحتدمة، فتجدهم يقدمون «الرأي» بطريقة حازمة وجازمة وكأنه «حقيقة» ويغضبون إذا ما عارضهم أحد. ومثال ذلك حينما يدعي فرد (أو شركة) بقوله، إن «هذا هو أفضل متجر في العالم»، هنا من حق المستمع أن يطلب أدلة حتى يتأكد أن الجملة مبنية على حقائق أو دراسات أو إحصائيات وليست مجرد رأي وانطباعات.

والرأي بالمناسبة يمكن الاختلاف معه لأنه مبني على مشاعر وأحاسيس وانطباعات أو معلومات أو أهواء تحتمل الخطأ والصواب، ولذا قال الإمام الشافعي:

«رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

أما الحقيقة فيفترض أنها بازغة كبزوغ الشمس لا ينكرها إلا مكابر. ولذا تجد أن وسائل الإعلام المهنية (وما أقلها) تحاول ألا تخلط بين الرأي والحقائق، فإذا اضطر المذيع أن يدلي برأيه فإنه يذكر ذلك صراحة حتى لا يفتح لمحاوره أو لجمهوره باب الهجوم عليه والتشكيك في محاولات قد يعتبرها البعض كدس السم في عسل الحقائق.

ولذا فإن الشخص اليقظ في الحوار هو من ينتبه إلى الفارق بين الرأي والحقيقة و«لا يحرق سعراته الحرارية»، كما يقول المثل الإنجليزي، على شخص يعبر عن رأيه، لا سيما إن كان محدثه لا يقبل بالرأي الآخر ويتمعر وجهه ويرعد ويزبد حينما يعارضه أحد. ولذا كان أفضل مخرج من هذه الحوارات «ذات الاتجاه الواحد» هو ترديد عبارة «أحترم وجهة نظرك» علنا ننفذ بجلدنا من هذا المأزق الحواري!

لا يمكن أن يغير الإنسان الآخرين لكنه يستطيع أن ينتبه إلى الفارق بين الرأي والحقيقة، لأن عدم إدراك الفارق بينهما يولد أجواء غير مريحة من الشحناء والبغضاء والضغينة بين المتحاورين، لا سيما في مجتمع لم يعتد على فقه الاختلاف منذ نعومة أظفاره.

[email protected]