عودة الاحتلال الأميركي

TT

يبدو أن هنالك من يحاول أن يعيد العراق لمرحلة الاحتلال مجددا عبر طرح حلول غير واقعية لحل المشاكل العالقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، وبكل بساطة يطرح البعض فكرة عودة القوات الأميركية للمناطق الخاضعة للمادة «140» من الدستور العراقي تحت ذريعة أن وجودها من 2003 وحتى الانسحاب الأميركي نهاية عام 2011 كان ناجحا.

هذا التعليل فيه الكثير من المغالطات لعل أهمها أن الخلاف بين الحكومة الاتحادية والإقليم ليس عسكريا ليتطلب وجود قوات تحفظ الأمن، وثانيا أن كردستان جزء من العراق الاتحادي وليست دولة مجاورة، وثالثا وهو الأهم أن وجود أي قوات أجنبية يجب أن يكون بموافقة البرلمان العراقي، وهو أمر لا يمكن أن يحصل لأسباب كثيرة، منها أن القوى السياسية العراقية لا يمكن لها أن تقبل عودة الجنود الأميركيين بأي طريقة ولأي سبب كان، وثانيا أن القوات العراقية لم تفشل في إدارة الملف في هذه المناطق بل تم عرقلة عملها من أطراف تريد فرض الأمر الواقع، وكأن ما يحصل مواجهة بين دولتين وليس شأنا داخليا تحتمه فرضيات الأمن الوطني العراقي.

لكن علينا هنا أن نعود إلى جذور الأزمة السياسية في العراق، ولو عدنا بذاكرتنا لوجدنا أنها اندلعت مباشرة ليلة الانسحاب الأميركي من العراق، دعاوى تشكيل الأقاليم، وأزمة تصدير النفط، وتعليق العضوية في البرلمان والحكومة، والتهديد بالانفصال، وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تجمعت دفعة واحدة في اليوم الأخير لوجود الأميركيين في العراق بعد أن تمكنت القوى الوطنية من تخليص العراق من احتلال أجنبي ما كان ليخرج بهذه الطريقة لولا قوة المفاوض العراقي وإرادة الشعب التي دعمت هذا المفاوض ومكنته من أن يحقق هذا الإنجاز التاريخي الكبير.

ومن هنا نستنتج أن السبب الرئيسي للأزمات المتتالية يكمن في عدم تهيؤ البعض لمرحلة ما بعد الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية، لهذا وجدنا دفعة قوية من الأزمات تظهر مرة واحدة مع موجات إرهاب منظم تفرض وجودها في الشارع العراقي بين الحين والآخر، صاحب ذلك مشاريع وأجندات إقليمية تمكنت حتى هذه اللحظة من تعطيل الكثير من مشاريع القوانين المهمة للشعب العراقي، لعل أبرزها قانون البنى التحتية وغيره من القوانين التي يحتاج إليها الشعب العراقي، وعدم التهيئة هذا جعل البعض يتخبط في الكثير من الأفعال التي وصل بعضها إلى المطالبة بعودة القوات الأجنبية بشكل علني وبوسائل الإعلام الأميركية نفسها، بينما نجد اليوم من يحاول طرح هذا المشروع بشكل علني، وكأن الأمر كما قلنا صراع عسكري بين دولتين.

ومبعث هذه التصرفات يكمن في أن أميركا كان لها تأثيراتها الكبيرة في العملية السياسية والتوافقات ما دامت قواتها كانت موجودة في العراق، لكن بعد خروجها فإن أميركا الآن لا تدعم طرفا على حساب الآخر كما يتصور البعض، بقدر ما أنها تدعم عراقا ديمقراطيا اتحاديا فيه دستور، وهنا المشكلة التي يعاني منها البعض أن الدستور هو الفيصل، وهو ما يرفضه البعض من الذين لم يعتادوا على وجود دستور يحدد واجبات الحكومة الاتحادية وصلاحيات الإقليم.. دستور صوت عليه الشعب وأقر كوثيقة تربط كل العراقيين وتوحدهم.

لماذا إذن نحتاج إلى وجود أميركي جديد في العراق ونحن لدينا مفاتيح لحلول في الدستور العراقي الذي نظم العلاقة بين المركز والمحافظات والأقاليم ولم يترك فراغات في ذلك؟! على جميع القوى السياسية أن تدرك جيدا أن مرحلة الوجود الأميركي في العراق انتهت في الساعة الأخيرة من عام 2011 ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعود هؤلاء للبلد كقوات عسكرية، وأيضا على القوى السياسية أن تعي جيدا أن مرحلة السيادة مرحلة لا يمكن التفريط فيها من قبل الشعب العراقي مطلقا، والأهم من هذا وذاك عليها أن تجعل من الدستور العراقي مرجعية لتنظيم العلاقة وحل الخلافات في إطار البيت العراقي، خاصة أن المحيط الإقليمي للعراق يعيش ظروفا صعبة جدا، وفي المقابل العراق ينتعش في مجالات كثيرة ويتهيأ لأن يأخذ دوره في المنطقة العربية والشرق الأوسط والعالم، هذا الدور الريادي للعراق يبدو أنه يزعج البعض أن يروه فيه ويزعجهم أن يتعافى العراق ويضمد جراحاته وينطلق في رحاب التنمية والأمن والاستقرار والدولة الدستورية، ولا نريد أن يكون موسم الانتخابات المحلية فرصة لأن يستعرض البعض قوته على حساب أمن المواطن ودماء الأبرياء.