إصلاح القطاع الطبي

TT

في مجال الخدمات الطبية تعتبر مسألة الأخطاء المهنية «مخاطرة» وجزءا من المهنة، تقللها التجهيزات الكافية والمؤهلات البشرية اللائقة والخبرة المناسبة. ومع مرور الوقت واتساع التجربة عرفت المجتمعات الغربية المتفوقة أن تصنف هذه الأخطاء المهنية بشكل دقيق، وذلك بسبب الخبرة المتراكمة، فبالتالي بات من الممكن التفريق بين الخطأ الطبي والإهمال والتعمد، وهي ثلاث درجات لا يمكن أن تعرف إلا بالتحقيق الدقيق والمتأني حتى الوصول للحقيقة الكاملة.

وهذا الفكر لم يجئ إلا بعد زمن كبير من تعاون وتفاهم بين مقدمي الخدمات الطبية وبين شركات التأمين الصحي وجهات التحقيق، وبالتالي هذا فكر دقيق ومجرب. أتذكر هذه المسألة وأنا أتابع قضية قيام وزارة الصحة السعودية بإغلاق مستشفى خاص كبير بمدينة جدة بعد وفاة طفل بسبب خطأ طبي بحسب التقارير الأولية التي صدرت من الجهات المحققة.

من المهم أن يكون الجزاء «مفيدا» لأكبر شريحة ممكنة وليس ضارا لهم. الخوف أن يكون القرار في هذه الحالة قد أضر بعدد غير قليل من المرضى والمدينة نفسها التي تعاني من قلة في عدد الأسرّة الطبية المتوفرة أساسا. فالمستشفى المعني كان يضم أكبر مراكز غسيل كلوي غير الحكومية في المدينة وأحد أهم مراكز علاج الأورام ومركزا مهما جدا لأمراض القلب ومركزا أساسيا للأمراض النفسية ومركزا كبيرا للعناية المركزة، وبالتالي كان يخدم عددا كبيرا جدا من المراجعين والمرضى المنومين.

وبالتالي إذا كان المستشفى الذي يراجعه يوميا ما يعادل 2500 مريض، يعاني من مشكلات إدارية ولديه سوابق من الحالات الشبيهة موضع الشكوى وكون المستشفى تجاريا وذا طبيعة ربحية فيبدو بالتالي أنه من الواضح أن سياسة «التوفير» و«مضاعفة» الأرباح أدت إلى الإتيان بكوادر أرخص وتجهيزات أقل في حالات محددة، وعليه فإن العقوبة المناسبة في هذه الحالة هي الغرامة المالية الموجعة جدا وإشراف إداري مهني مستقل على المستشفى لفترة محدودة من الزمن.. هذا النوع من العقوبات (وهو ما تم تطبيقه في حالات سابقة مع مستشفيات أخرى) يحقق المطلوب بمعاقبة المنشأة المخالفة وعدم تشتيت المرضى والمراجعين والموظفين في صراع مع المجهول.

القطاع الطبي من مصادر الفخر والاعتزاز في السعودية بصورة عامة، فالتطور الهائل الذي حصل في هذا المجال عبر السنوات مسألة تدعو للزهو بسبب الإنجازات التأسيسية والبشرية في شتى المجالات، سواء أكان ذلك الأمر في القطاع العام أم في القطاع الخاص. فلقد كان القطاع الطبي أحد أهم مصبات الاستثمار بشكل عام وأغرى رجال المال والأعمال بالدخول فيه كمستثمرين وحققوا فيه عوائد مغرية جدا، وبالتالي يبدو مهما جدا أن كل قرار يصدر كفكرة تصحيحية وكقرار إداري لإصلاح أي نوع من أنواع الخلل لا بد أن يراعي المناخ الإداري العام والاستثماري والمهني لهذا القطاع، وأن يتم تطوير حقيقي لفكرة التعامل مع الخطأ الطبي والإهمال والموت العمد والتفريق بين كل حالة وعدم التسرع بالحكم بالعاطفة بحسب ردود الفعل الإعلامية أو الجمهور الذي قد لا يعلم كل الحقيقة بشكل قطعي ولا يحتمل التأويل. وقتها يكون «الحل» سليما وشموليا وكاملا ومهما ومفيدا، بحيث تصبح المسألة فائدة محققة ومعممة لكل القطاع وللعاملين فيه والمستفيدين منه دون تمييز ولا تفرقة ولا ابتزاز.

القطاع الصحي يتوسع ويزداد الاهتمام به، ليس فقط على المستوى المحلي المحدود، ولكن حتى على المستوى الإقليمي وحتى الدولي أيضا. اليوم القطاع الصحي الخاص في السعودية نجح وبجدارة في استقطاب كفاءات بشرية وشراكات عالمية حتى مكنه ذلك من «تصدير» خبرته التراكمية للخارج عبر مشاريع عملاقة في أكثر من دولة مهمة بالمنطقة العربية، ولذلك يتطلع القائمون على هذا القطاع والمهتمون به إلى بيئة إدارية ومناخ استثماري سوي ومتطور يحقق كافة الغايات المنشودة بلا ضرر ولا ضرار، فيستفيد الجميع وتطال العقوبة من يستحق أن ينالها دون التأثير السلبي على الآخرين.

الأخطاء الطبية تقع، وإذا وقعت في مستشفى عام لن يتم إغلاقه، ولكن ستتم معاقبة المتسبب وتحقيق الإصلاح الإداري المنشود. عموما ما حدث هو فرصة للتأمل في حال القطاع بصورة عامة والاستفادة من التجربة، وهذا هو أهم المطلوب.

[email protected]