ماذا يعني ابتهاج المسلمين بتحرير بني إسرائيل في عاشوراء

TT

نحن اليوم (السبت) في العاشر من شهر الله المحرم.. وهذه مناسبة زمنية سنوية دورية شريفة يصوم فيها المسلمون، أو كثير منهم: اقتداء بسنة نبيهم محمد – صلى الله عليه وآله وسلم - .. وأصل هذه السنة: أنه عندما قدم النبي إلى المدينة المنورة وجد اليهود يصومون العاشر من محرم فقال: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا. فقال النبي: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وأمر بصيامه.

ولعله من المناسب سوق هذه الوقائع في سياق قصصي.

كان بنو إسرائيل قوما مستضعفين في مصر حيث استباح فرعون الطاغية المتجبر المتأله حياة بني إسرائيل أيما استباحة فعمد إلى تقتيل كل وليد ذكر، واستثنى النساء: ليس ورعا ولا إنسانية ولطفا. وإنما لأنه اعتقد أن نهايته ستكون على يد رجل من بني إسرائيل، لا على يد امرأة!! ولذا عمد إلى إبادة النوع الذي يخشاه (أي الذكور).. وكان ذلك كله في إطار خطة خسف وإذلال تعامل بها مع بني إسرائيل إذ عذبهم واستعبدهم. وقد تبجح بذلك حين دعاه موسى وهارون – عليهما السلام – إلى الحق والهدى والنور فقال هو، وملؤه معه: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ»؟.. ومن أنت حتى يعبدك الناس!!!!! ولكنه الطغيان. ومن هنا كان من أوائل مطالب موسى عليه السلام هو: «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ».. هاتوا الناس المستضعفين.. أطلقوا سراحهم.. خلوا بيني وبينهم.. كفوا عن عذابهم وإهانتهم.. وهذه الآية تفسرها آية أخرى عضد وهي: «فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ».

تلك المعاني والمضامين الآنفة قد انتظمها كتاب الانتصار للحق والابتهاج بالمنتصرين: مهما كانت أعراقهم، والفواصل الزمنية بيننا وبينهم: انتظمها القرآن المجيد:

أ) «وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ».

ب) «وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى».

ج) «وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ».

إنه (مهرجان) التحرير والانتصار لبني إسرائيل.. التحرير من استعباد فرعون لهم، والانتصار – بفضل الله وعونه – عليه وجنوده البغاة أيضا.

والأنبياء – عليهم السلام – خير من يعرف لله حقه وفضله، وخير من يشكر الله على ذلك كله.. ولذا صام موسى – عليه السلام – يوم عاشوراء (يوم التحرير والانتصار)، صامه شكرا لله، وزلفى إليه جل ثناؤه.

ورغم الفواصل الزمنية بين موسى ومحمد – عليهما السلام – فإن نبي الإسلام – المحتفي أبدا بالحق كله، وبأهل الحق جميعا – ما إن علم بـ(سبب) صيام عاشوراء حتى صامه وأمر المسلمين بصيامه ليشارك – والمسلمون معه – في الابتهاج بذلك اليوم العظيم السعيد: يوم العاشر من محرم.. يوم تحرير بني إسرائيل من العذاب المهين والاستعباد الأليم المقيم، وهي نعمة لا تعادلها نعمة – بعد توحيد الله جل شأنه – بل هي من صميم التوحيد «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ».

وليس يكتمل السياق، ويتكامل المفهوم – ها هنا – حتى نجتلي المضامين المضيئة النافعة في الفقرات الآنفة.. ومن هذه المضامين:

1) أن الدين الحق إنما جاء – بادئ ذي بدء – لـ(تحرير) الناس من الطغيان والاستبداد والاستعباد: في أي صورة تبدو، وفي أي زمن وقع.

2) وأن قاعدة التحرير هي (الحرية الحقة) المستمدة من عقيدة التوحيد: المثبتة الألوهية للإله الحق وحده، والنافية لكل الآلهة الباطلة.. وهذا هو معنى النفي والإثبات في كلمة (لا إله إلا الله)، إذ لا يصح الإثبات – في هذا المركب اللغوي البديع – حتى يتحقق النفي التام لكل إله باطل: بشرا كان أم حجرا أم خرافة أم هوى... إلخ.

3) أن السماحة الحقة هي – في التعريف الموضوعي الصحيح – (فتْح القلب والعقل والفكر وسائر المدارك حتى تتسع لتقبل الحق كله)، ولذلك شارك النبي – والمسلمون معه – في شكر الله عز وجل بصوم عاشوراء، أي شاركوا في الابتهاج بالحق والخير اللذين ساقهما الله لموسى وقومه قبل نحو ستمائة عام من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شكر سيمتد في الزمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أي سيستمر ما بقي في الأرض مسلمون يقتدون بسنة نبيهم في صوم العاشر من شهر الله المحرم من كل عام هجري.

4) أن العبرة الكبرى في التحرير من الاستضعاف ألا ينقلب المحرر من الطغيان إلى طاغية يمارس نفس ما كان يمارسه ضده طغاة مستبدون من قبل.

هل من شكر الله تعالى على العافية – مثلا – أن يتحول المريض – الذي شفي من مرضه – إلى كائن يحترف نشر الأمراض في العالم؟!! ويجعل ذلك وظيفته المفضلة في الحياة؟!!

من المحزن أن نقول: إن نفرا من اليهود يفعلون ذلك..

ونؤكد على (التبعيض) لأن التعميم المطلق خاطئ – كقاعدة عامة – ولأننا نعلم أن في اليهود اليوم من لا يفعل ذلك، بل يتبرأ مما تقوم به الحركة الصهيونية من ظلم وإذلال للفلسطينيين في فلسطين المحتلة.. وهؤلاء كثر بالملايين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والعالم.

ويمكن ضرب مثلين لتوضيح هذه المسألة، مسألة انقلاب المستضعف – بعد التحرير والنجاة – إلى جلاد يمارس نفس وسائل وأساليب جلاديه.

المثل الأول: أن اليهود كان ينبغي أن يعتبروا باستعباد فرعون لهم، ونجاتهم من ذلك على يد موسى بمعجزة من الله العزيز الحكيم سبحانه.. ومجمل الاعتبار أن يكفوا أبدا عن استعباد سواهم وعن إذلالهم.

المثل الثاني: ما عاناه اليهود في العصر الحديث على يد طغاة النازية وزبانيتها من اضطهاد وعذاب.. فقد يقال: إن الزمن الفاصل بين قصتهم مع فرعون واليوم طويل جدا، وإن من شأن هذا الطول أن يضعف الذاكرة عن استحضار ما جرى في ذلك الزمن الغابر. وإذا سلمنا – جدلا – بهذا الاستنتاج، فإن ما جرى لليهود على يد النازيين قريب غض لا ينسى.

ومع ذلك. نرى غلاة اليهود (مرة أخرى نؤكد على التبعيض) يكررون ما فعله النازي بهم مع الشعب الفلسطيني، بل إنهم تجاوزوا أفاعيل فرعون في هذا المجال. فقد كان فرعون يذبح الأبناء الذكور فحسب، على حين أن طائرات إسرائيل وقذائفها تقتل النوع الأنثوي أيضا، سواء تمثل في امرأة أم في طفلة رضيعة.

وهذا ما جرى في غزة.

أما وقد سكتت المدافع الآن، فإن الضمان الوحيد لئلا يتكرر ما جرى هو:

أولا: أن يتحرر قادة إسرائيل من وهم أن إبادة الشعوب أمر مستطاع.. والدليل على ذلك من تاريخهم هم أنفسهم. فقد حاول فرعون وهتلر إبادتهم، ورغم ذلك ها هم يعيشون على الكوكب كما يعيش سائر الناس.. ودليل آخر من تاريخ الفلسطينيين أنفسهم. فعبر أكثر من ستين عاما حاولت يد الإبادة الإسرائيلية أن تمحو الشعب الفلسطيني، وتمحو ذاكرته من التعلق بأرضه، بيد أن المحاولات خابت، وآخرها خيبة الحملة المجنونة على غزة في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) والتي امتدت لأكثر من أسبوع. فبعد هذه الغزوة النزقة ها هو الشعب الفلسطيني قد نجا واستأنف حياته، بعزة وشرف وتصميم على أن يبقى حيا.. وحقيقة الأمر أن شعبا كهذا جدير بالحياة الحرة الكريمة. فلمن تكون الحياة الحرة الكريمة إن لم تكن لهذا الشعب الذي حول الإحساس بالاضطهاد إلى نزوع إيجابي في الدفاع عن حياته وحريته.

ثانيا: الضمان الثاني: أن يخرج العرب من حالة الاسترخاء إلى حالة (الصلابة) والجد من خلال الوعي الاستراتيجي بأن قضية فلسطين هي مفتاح الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة كلها، وإلا فإن (الدوامة) المجنونة ستستمر إلى ما لا نهاية.