بريطانيا على أعتاب الخروج من الاتحاد الأوروبي

TT

تتراكم الغيوم منذرة بعاصفة وشيكة سوف تهب على علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، حيث بدأ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في الانسحاب تدريجيا من الاتحاد، سعيا في الظاهر وراء تكوين العلاقة الأقل تداخلا بين لندن وبروكسل اللازمة لإبقاء المملكة المتحدة داخل حظيرة الاتحاد الأوروبي، إلا أنه بذلك ربما يحرك أمواج عملية سياسية سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى أن تقفز بريطانيا من السفينة الأوروبية.

وإذا حدث ذلك سوف يمثل ضربة قاصمة للتضامن الأوروبي، كما سيحرم الاتحاد الأوروبي من الدور الثمين الذي ما زالت لندن تلعبه في توجيه عملية التكامل الاقتصادي وتكبير حجم الاتحاد، بالإضافة إلى ما يحدثه من زعزعة أسس التحالف القائم على شاطئي المحيط الأطلسي.

وقبل أن يصبح من المتعذر منع بريطانيا من الانكفاء على ذاتها، فمن الأفضل بالنسبة للأوروبيين والأميركيين على السواء أن يقروا بالعواقب المحتملة لتزايد ابتعاد المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. ولطالما كانت بريطانيا حريصة على الاحتفاظ بمسافة فاصلة بينها وبين جيرانها الأوروبيين، حيث كانت الإمبراطورية البريطانية تتكل في ذلك على سياسة «الانعزال الجميل» (splendid isolation)، من خلال الاعتماد على القناة الإنجليزية مسافة عازلة تحميها من التورط في شؤون القارة العجوز.

وقد ظلت لندن في البداية تقف بعيدة عن مشروع التكامل الأوروبي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن انضمت في النهاية إلى المجتمع الأوروبي عام 1973، غير أنها منذ ذلك الحين فضلت البقاء خارج منطقة اليورو وغير ذلك من المبادرات الجماعية، وظلت حماية السيادة البريطانية من تجاوزات «اليوروقراطيين» الجالسين في بروكسل تعتبر باستمرار بمثابة صيحة حرب سياسية.

ويبدو أن هذا الشعور القديم بعدم الارتياح تجاه التقارب أكثر من اللازم مع أوروبا قد بدأ يتحول الآن إلى حالة فرار جماعي خطرة نحو باب الخروج، فقد صوت البرلمان مؤخرا برفض مقترح كاميرون الشحيح بخصوص ميزانية الاتحاد الأوروبي.

وبضغط من المتشككين في اليورو داخل حزبه، يميل كاميرون شيئا فشيئا نحو التعهد بإجراء استفتاء شعبي على عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي (وتكشف استطلاعات الرأي الأخيرة أن 48 في المائة ممن شاركوا في التصويت يفضلون الانسحاب، في مقابل معارضة 31 في المائة).

وكاميرون نفسه يفضل استمرار بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن فقط إذا كانت بلاده قادرة على التفاوض من أجل إقامة علاقة أقل تداخلا، وهو يرغب في تقوية اتحاد أوروبي «ذي شريحتين» يسهم فيه الأعضاء غير المنضمين إلى منطقة اليورو بقدر أقل في ميزانية الاتحاد ويشكلون المؤتمر الحزبي الخاص بهم، كما أوضح أيضا أن حكومته سوف تستعيد السيطرة على الجوانب الأساسية من السياسة الاجتماعية وعملية إنفاذ القوانين من بروكسل، وهذه الخطوات يقصد بها إعطاء البريطانيين مساحة التنفس التي يحتاجون إليها من أجل الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي. ولكن بدلا من تعزيز مكانة بريطانيا داخل الاتحاد، فإن المسار الذي يتخذه كاميرون سوف يؤدي في الغالب إلى التعجيل بانفصالها. ومن بين أعضاء أوروبا البالغ عددهم 27 دولة، هناك 10 دول لم تنضم إلى منطقة اليورو، إلا أن معظم رفاق بريطانيا في هذه الدائرة الخارجية يخططون للانضمام في النهاية إلى منطقة اليورو، مما قد يترك بريطانيا تقف وحدها في موقف المنشق عن السرب، حيث ستغيب عما سيصبح المحفل الرئيسي لصنع القرارات داخل الاتحاد الأوروبي، ولن تحبذ بريطانيا البقاء داخل اتحاد أصبح صوتها داخله مهمشا إلى هذا الحد.

كما أن بريطانيا سوف تدفع ثمنا اقتصاديا ضخما مقابل البقاء بمعزل عن الآخرين، ذلك أن منطقة اليورو تشكل اتحادا مصرفيا وآخر ماليا قد يمنحان السوق الأوروبية الوحيدة قطاعا ماليا متكاملا، ومن الممكن أن تتأثر مكانة لندن بوصفها أحد المراكز المالية في العالم بانتقال المصرفيين والمتداولين إلى منطقة اليورو من أجل الاستفادة من قواعدها المشتركة وعملتها الموحدة، ولن يكون من نتيجة لذلك، سوى تزايد عداء بريطانيا للاتحاد الأوروبي.

وأيضا فإن انجراف بريطانيا بعيدا عن أوروبا يمثل طريقا مسدودا من الناحية الجيوسياسية، حيث إن بريطانيا لطالما كانت تمثل جسرا بين الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن لندن لا يمكن أن تظل شريكا هاما فيما يتعلق بأمور الدفاع الأوروبي إذا ما تحولت إلى لاعب صغير الشأن داخل الاتحاد الأوروبي. وسوف تضع بريطانيا نفسها في جزيرة معزولة إذا تخلت عن ارتباطها بالاتحاد الأوروبي، مما يؤدي إلى إضعاف الاتحاد وكذلك إضعاف الحبل الذي يربط أوروبا بالولايات المتحدة.

إن وجود بريطانيا محايدة واتحاد أوروبي ضعيف لا يبشر بخير بالنسبة لعلاقة قائمة عبر المحيط الأطلسي تمثل أهمية محورية بالنسبة للدفاع عن القيم والمصالح الغربية، ففي ظل انكماش ميزانية الدفاع الخاصة بأميركا نفسها وتضخم ميزانيات الدفاع الخاصة بالصين وغيرها من القوى الناشئة، فإن واشنطن تشعر بحاجة ماسة إلى حلفاء قادرين، ورحيل بريطانيا عن أوروبا قد يعني أن تنزلق المملكة المتحدة، وكذلك أوروبا ككل، تدريجيا خارج شاشة الرادار الأميركي.

وإذا أصر البريطانيون — الذين يدركون جيدا العواقب المحتملة — مع ذلك على إدارة ظهرهم إلى أوروبا، فليكن ما يريدون، إلا أنه سوف يتعين عليهم على الأقل أن يتنبهوا جيدا إلى موطئ قدمهم وهم يسيرون على ذلك الطريق.

* أستاذ في الشؤون الدولية لدى

«جامعة جورج تاون» وكبير باحثين في «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي.