من حكميات التراث الشعبي

TT

كثيرا ما تمثل الأمثال الشعبية روح الفكاهة عند الشعوب، وهذا سر اهتمامي بها وإسرافي في الاستشهاد بها. وفي هذا الصباح خطر ببالي مثل شعبي عراقي وأنا أتابع أخبار العراق التي أحاول أن أتحاشاها في هذه الأيام.

المثل الذي خطر لي هو قول العراقيين، «أبو الجعل ما يحب الريحة الطيبة» أما أبو الجعل فيقول الدكتور محمد صادق زلزلة، إنه دويبة سوداء تشبه الخنفساء ويعتقد البعض أنه ذكر الخنفساء، والله أعلم. اشتهر بصلابة القشرة وبطء الحركة. وله رائحة كريهة ورأس عريض وأيد كالمآثر. ومن المعتاد لأبو الجعل أن يعيش في الأماكن القذرة والنتنة الرائحة. وككل الأمثال، هناك أسطورة وراء هذا المثل. قيل إنه خرج يوما من مكانه المظلم والعفن فشاهد الشمس أمامه ووقع في حبها. خطبها عن نفسها فقالت له تريد أن تتزوجني وتجعلني أعيش في مكانك الحقير هذا؟ اذهب أولا ونظف بيتك وعطره بماء الورد واملأه بالأزهار لأزورك وأفكر بخطبتك. أسرع أبو الجعل لبيته وقام بما أمرت به الشمس. وما أن أنجز ذلك ونظر حوله ورأى كل هذه الورود والروائح العطرة حتى خر صريعا ومات. وعندما جاءت الشمس ورأته جثة هامدة بكت عليه وقالت لا حول ولا قوة إلا بالله. وراحت تلطم على صدرها كما يفعل العراقيون آسفة على ما فعلت فصادفها القمر وسألها فروت له ما جرى، فقال لها يا جاهلة، ألا تعرفين أن أبو الجعل لا يعيش مع النور والرائحة الطيبة؟ وهو ما يدل على أن القمر أرجح عقلا من الشمس، فالشمس تخرج على الناس أثناء النهار عندما لا يكونون في حاجة إليها.

سيستغرب القارئ عندما سأقول إنني أنا أيضا تربطني علاقة قربى مع أبو الجعل. فلما جئت إلى بريطانيا أصبت بحساسية نظيفة مما يسميه الإنجليز بحمى التبن التي تتميز باحمرار العينين وحكتهما وبالسعال والعطس المستمر. أجريت عدة فحوصات وأخبرني الطبيب بأن لقاح الزهور والأعشاب البريطانية يؤذيني ويسبب هذه الأعراض. وأن هذه الحالة ستزول عندما أترك بريطانيا وأعود إلى بلدي الصحراوي حيث لا توجد أزهار ولا عشب. واختفت فعلا بعد نهاية دراستي وعودتي للعراق. فتذكرت المثل، حقا أنا لا بد أن أكون أبو الجعل أو أحد أقربائه فلا يطيب لي العيش مع الأوراد والخضرة الجميلة.

ولكنني بعد بضعة أشهر أخذت أعاني معدتي. وبعد الفحوص والأشعات قال لي الطبيب: آسف أنت ما عندك قرحة. وهذا أصعب وأخطر. مشكلتك نفسية، معدتك غير قادرة على هضم الديكتاتورية.

تحيرت في أمري بين خيار وجع المعدة في العراق بسبب الديكتاتورية أو زكام حمى الحساسية في بريطانيا بسبب الأوراد. قررت أخيرا أن الخيار الثاني هو الأرجح والأعقل فعاد سليل أبو الجعل لبريطانيا.

والظاهر أنني لست أبو الجعل الوحيد في العراق. فهناك الكثيرون من هذه السلالة في العراق. ولكن ينبغي أن نطور ذلك المثل القديم ونحوره فنقول إن أبو الجعل ما يحب الحياة تحت شمس الحرية. فما إن تخلص القوم من حكم صدام حسين ونالوا الحرية حتى باشروا بقتل بعضهم البعض وملأوا شوارعهم بجثث الضحايا البريئة والزبالات والقاذورات على نهج أبو الجعل، عفا الله عنه.