الانتفاضة لم تنتج فكرا أو قيادات جديدة

TT

ثورات العصر الحديث تميزت بتقديم أفكار جديدة. وأنتجت قيادات سياسية جديدة. وَمَهَّدَ لها مفكرون. ومثقفون وأدب اجتماعي غزير. باستثناء سوريا حيث هناك ثورة شعبية حقيقية، فما زلت مصرَّا على وصف ما حدث في العالم العربي أنه مجرد «انتفاضة»: ثورة بلا فكر. بلا ثقافة. بل بلا قيادات وزعامات سياسية جديدة.

لماذا هذا الخواء الفكري. والثقافي؟ لأن الفكر المحافظ تقدم فجأة ليحتل الانتفاضة. وليمسك بالسلطة. وليحيِّد القيادات الشابة التي هبطت من كوكب الخيال (الإنترنت) على الكوكب العربي، من دون أن تُهَيَّأ لها الفرصة، لتجميع وتركيز أفكارها. ومن دون أن تملك اللغة للتعبير عن طموحاتها، في معالجة أزمة الإنسان العربي المعاصر. أزمة المواطن العربي العادي الذي تأخر تحريره وتوعيته فكريا. وسياسيا. وتعطل تطويره. وتنميته اقتصاديا.

وهكذا، هناك اليوم صدام فكري. سياسي. ديني. اجتماعي، بين هذا الفكر المحافظ. وهذه القيادات الشابة التي تردفها وتدعمها، من حسن حظها، بقايا فكرية وسياسية واعية، من جيل لم يتمكن من تغيير النظام السلطوي. نظام جمهوريات الأمر الواقع التي ولدت في أواخر الستينات، واعتنقت ثقافة العنف والقمع، في التعامل مع إنسانها العربي العادي.

وهكذا أيضا، لم يستطع نظام الفكر المحافظ الذي حل هو الآخر، كنظام سلطاني لأمر واقع مماثل لجمهوريات زين العابدين. القذافي. نميري. مبارك. وقبلا صدام. وعاجلا أو آجلا بشار... لم يستطع نظام ابن كيران. الغنوشي. مرسي. المالكي، أن يُغَيِّر، لأنه هو أيضا لم يتغير فكريا. أسلوبا. ونهجا.

نظام الفكر المحافظ لم يستطع أن يحسم معركته، بعد، مع قيادات المعارضة الشابة الجديدة. لأنه لم يحسم معركته مع موقفه الفكري والسياسي الذاتي. وما زال الجدل طويلا، بينه وبين التيار السلفي الذي شاركه غزوته لصناديق الاقتراع.

الواقع أن تيار الفكر المحافظ يخوض صراعا تاريخيا عمره 84 سنة، مع التيارات الليبرالية الثقافية. في هذا الصراع المستمر، سجل الجانبان مكاسب وخسائر. المأخذ على الداعية حسن البنا أنه قطع الوصل مع إصلاحية جمال الدين الأفغاني التي حاولت تقديم إسلام مستنير. متكيِّف مع قيم الديمقراطية. والحرية. والحقوق. والقانون التي بنى عليها الغرب تقدمه المذهل في تقنيات العلم.

واصلت بطانة البنا وخلفاؤه، في مكتب الإرشاد، الصدام مع قوى التغيير القومي، بقيادة عبد الناصر. ثم تحالفت مع قوى الرِدَّة الساداتية ضده بعد رحيله، وضد القوى الليبرالية. وأخيرا، اغتنمت فرصة انهيار نظام مبارك، لتستولي على السلطة.

ورافق استيلاء الفكر المحافظ على السلطة أو المشاركة فيها، في المغرب. تونس. مصر، الاعتقاد بأن بالإمكان فرض وإشاعة هذا الفكر، تدريجيا، بقوة الدستور. والقانون. والإجراءات الاستثنائية السلطانية، من دون أن تعي الأنظمة المحافظة الجديدة التجربة التركية الفريدة، في تحقيق مستوى عال من الانسجام، بين الدين والعصر، والرهان على التنمية الاقتصادية، في تأمين ازدهار نسبي، للمواطن المدني، في عيشه. تعليمه. ورفاهيته.

الخطير في الأمر، أن مكتب الإرشاد الإخواني الذي يحرك النظام بـ«الريموت كونترول» ليس سلطة رسمية معترفا بها. أو منتخبة عبر صندوق الاقتراع الديمقراطي. وبالتالي، لا يحق له دفع المسكين الرئيس مرسي، إلى تنفيذ إجراءات استثنائية، في غياب الدستور والبرلمان. وحتى من دون استشارة مستشاري الرئاسة الذين تبين أنهم لا يُستشارون.

أترك الفكر المحافظ في أزمته السلطوية الخانقة، لأعود فأقول إن قوى التغيير النهضوية ارتكبت هي الأخرى، أخطاء تاريخية. جرى تبنّي ثقافة متوسطية/ فرنكفونية، في تونس. الجزائر. المغرب، لا صلة لها بثقافة التغيير في المشرق.

أما في مصر، فمنذ احتلالها عام 1882، أمعن الاحتلال البريطاني في فصلها عن عروبتها، وفي رعاية علمانية ثقافية/ أدبية شديدة المحلِّية، الحنين إلى حضارة فرعونية ماتت وشبعت موتا.

الغريب أن رواد الليبرالية المصرية، ومفكريها. ومثقفيها. وأدباءها. وصحافييها، أنتجوا فكرا. وأدبا. وصحافة... من دون أن يتنبهوا إلى أن وهجهم الثقافي وتأثيرهم الفكري كانا أكبر في العالم العربي المفصولين عنه، مما كانا في داخل مصر!

كان لا بد من عبد الناصر لإعادة تعريف مصر بعروبتها. لكن كان على ناصر أن يفتح الحياة الأكاديمية والأندية الثقافية، أمام الأكاديميين والمفكرين العرب، لترسيخ الانتماء القومي، لدى الشبيبة المصرية عموما. والناصرية خصوصا، كي يمهد لفكر شبابي جديد. لم يحدث ذلك، فكان سهلا على الردّة الساداتية، أن تضرب الاتجاه الناصري والعربي، بمساعدة الإخوان. و«الجهاديات» التكفيرية، في الجامعات.

ما أريد أن أصل إليه هو أن الانتفاضة العربية لم تقدم فكرا جديدا. أو قيادات شابة جديدة. في البداية. راودني أمل جارف، في أن يتبنى شباب الانتفاضة ثقافة جديدة. ثقافة تُعْنَى بقيمة الإنسان العربي. المدني. العادي الذي ثاروا. وانتفضوا من أجل تحريره، من ثقافة القمع. والعنف. وعبادة الشخصية.

العالم كله يعيش اليوم انتفاضة الإنسان العادي ضد الديون. ضد الضرائب الجديدة. ضد تجريده من المكاسب والضمانات الاجتماعية. والمادية التي حققها عبر نضال سلمي أو ثوري، على مدى قرن كامل.

عندنا، حدثت انتفاضة قام بها الناس العاديون. لكن لم يحدث تغيير أو إصلاح. ما زال نظام الأمر الواقع قادرا على قتل خمسين ألف إنسان سوري عادي، على الرغم من إجلاس طبيب النظام «المودرن» على منصة الاحتفال، بذكرى الثورة الفرنسية التي أشعلت ثورات التغيير الكبرى.

عندنا، استولى نظام الفكر المحافظ على السلطة. هو أيضا يراوغ. لا يجدد. ويتجدد. وإنما ليستمر في حكم الإنسان العادي بالقانون السلطاني، وليفرض تطبيقه بأجهزة الأمن. والقمع. والميليشيات الشارعية.

حماس أصدق تمثيل لمؤسسة الفكر المحافظ، في تجاهلها كبرياء الإنسان الفلسطيني. خرج الطبيب محمود الزهار من مخبئه، ليعلن على الملأ عمالته لإيران! ولحق به إسماعيل هنية بالطبل والمزمار، مدشنا الاحتفال بـ«النصر» المخزي. النصر على الإنسان الغزي. على المواطن الفلسطيني المدني الذي فقد 1361 شهيدا وجريحا.

على من تضحكون في غزة، بهذا «النصر» الدموي المخزي؟! هكذا، مراوغة السياسة: يذهبون إلى المساجد. يؤمُّون الناس. يخطبون فيهم. يشجعون على التضحية. ثم يبيعون إيران لحومهم! لماذا؟ لا لأن إيران مستعجلة على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وإنما لأن إيران مستعجلة على إنقاذ نظام رجلها في دمشق. وتريد من حماس أن تسرق دائرة الضوء المركزة على مأساة ملايين السوريين، ولو لأيام أو أسابيع قليلة.

شاهد الزور هي أميركا! ذهبت هيلاري إلى القاهرة، لشكر إخوان مصر، على إنقاذ إخوان غزة! ليست المرة الأولى التي تستعين بها أميركا بالإسلام السياسي في المنطقة. صفقت أميركا نيكسون. وكيسنجر. وبرزجنسكي. وكارتر للسادات وهو يلصق زبيبة طائفة «البهرا» في الهند، على جبين دولة «العلم والإيمان» في مصر. ثم... ها هي أميركا تضع انتفاضة الإنترنت في حضن نظام الفكر المحافظ، من دون أي تفكير في دفعه إلى تجديد ذاته.