فتح مصر في سنة أولى حكم!

TT

أستغرب من الضجة التي أثيرت إثر إعلان الرئيس محمد مرسي ما عرف الآن بـ«الإعلان الدستوري» من أجل تحصين قرارات الرئيس وإبعاده عن المساءلة، بالإضافة إلى تحصين ما سوف يخرج من لجنة إعداد الدستور المختلف عليها حتى الآن، خاصة الضجة التي أثارها من يعرف الأمور ومطلع عليها.. فلم تكن بالنسبة لهؤلاء مفاجئة، بل كانت متوقعة، وأشار إليها كثير من المراقبين على أنها آتية لا محالة.

الأصل هو رغبة الاستيلاء على السلطة كاملة غير منقوصة وغير مساءلة من أي أحد كائنا من كان. ذلك ما تربى عليه فصيل كبير من الإخوة النشطين في «الإخوان» ولفترات طويلة من الزمن، فلا يمكن التعايش مع رأي آخر بعد أن لاحت لهم فرصة تاريخية قد لا تتكرر؛ هي حكم مصر.

هناك تفكير حقيقي لدى هذا الفصيل بأن البحث عن «المستبد العادل» من خلال العزم الأخلاقي لتحقيق ديمقراطية نقية «إخوانية»، هو ما يمكن أن يحقق الأهداف الكبرى التي تسعى إليها الجماعة، أي وضع قاعدة لحكم الخلافة؛ الحلم القديم المتجدد، وكل ما عدا ذلك هو وسيلة لا غير.. فلا الديمقراطية الشعبية، ولا الحريات، ولا المشاركة، ولا الفصل بين السلطات، ولا حتى التدرج في اتخاذ القرارات، هو الطريق لتحقيق الأهداف ذات الصبغة شبه المقدسة.

تربى هذا الفصيل على السمع والطاعة، وتجريم المخالفين في الرأي ونبذهم، وليس بخافٍ أن الإخوان المسلمين تيارات واجتهادات.. كان من قبيل الصدفة التاريخية أن يهيمن تيار «القطبيين السابقين» على مقاليد «الإخوان» في مصر في الفترة السابقة لسقوط نظام مبارك، ومن ثم تم إضعاف التيار «السياسي» الذي تعلم من أخطائه وقبل بالتدرج. من يحكم اليوم في الغالب هم من ذلك الجمع المتأثر بالقطبية الذين سماهم المرحوم عمر التلمساني تنظيم العشرات (أي من قضى في السجن عشر سنوات). والقطبيون هم من انتسب إلى أفكار المرحوم سيد قطب المعروفة بالتشدد، والقائلة إن المجتمع مجتمع «جاهلي» وجبت مفارقته.. من هنا نسمع بعض عبارات ومفاهيم يقول بها حتى الرئيس مرسي نفسه في الحديث عن مصر.. «إنه الفتح الثاني»! أي الفاصلة مع الآخر في الوطن حتى «يهتدي».

ما يحدث في مصر متوقع وغير مستغرب، فقد زين للسلطة أنها قد أزالت حكم العسكر، ثم جاء دور الإعلام، فقلص من خلال إحلال المريدين والأوفياء في معظم مفاصل الإعلام الرسمي المكتوب والمشاهد، ثم بدأ التحول إلى الإعلام الخاص من خلال فتح ملفات قديمة لتقليص تأثيره. كان القضاء هو العقبة في كل ذلك، ثم جاء دور القضاء من أجل «تطهيره»، ولكن المعركة طويلة في هذا الملف، والحكام في عجلة من أجل تحقيق المشروع الذي ما انفك يداعب الخيال، فأقرب مكان إلى التطهير هو كف يد القضاء عن التدخل في أي قرارات، وتعطيل القانون إلى أن يأتي يوم يشكل القضاء حسب أهواء الحكم، ولم تكن تلك الخطوة بخافية؛ فلا يستقيم الحكم إلا بترويض القضاء. مرت مصر في تاريخها الحديث بعدد من مذابح القضاء؛ أو هكذا أطلق عليها.. كان ذلك في عصري حكم العسكر، عبد الناصر والسادات، ولم تكن الأمور تسير بيسر مع حكم مبارك، فكان التدخل في القضاء شبه دوري، مما جعل البعض في هذا القطاع الحيوي للمجتمع يستقيل ويحتج؛ من بينهم من هم الآن مستشارون للحكم الجديد.

فترة الكمون الطويلة التي قضاها «الإخوان» في السجون أو المنافي أو النأي بالنفس عن الشأن العام، أفقدت كثيرين الاتصال بنبض التيارات الحديثة من حولهم وطرائق تطويع الجماهير الواعية، فكل ما يعرفونه هو السلطان والكتاب، في الوقت الذي طورت فيه البشرية وسائل أخرى كالإقناع والتوافق، في عصر ومناخ اجتماعي اقتصادي مختلف لم تعد فيه الأدوات القديمة قابلة للتطبيق مهما أوتي من يستخدمها من الذكاء والفطنة أو الحيلة.

من هنا، فإن لجوء السيد محمد مرسي إلى تحصين النفس بالشكل والطريقة التي تم بها، وجدته القوى المصرية الحية شيئا من إعادة بناء جدار الخوف من السلطة، وتمهيدا لاستبداد بأسماء جديدة، بعد أن قام الشعب المصري بهدم هذا الجدار وتحطيم أصنامه السياسية.

ويرى السيد مرسي ومن حوله أن ثمة رسالة كبرى هو ومن معه وإخوانهم في الخارج، مكلفون بها تكليفا شبه رباني؛ لها جانب إقليمي، وآخر دولي، وقد هيأت له مصر كي تستخدم منصة للانطلاق، فلا مجال للتلكؤ ولا مجال للحوار، وكمثل من يتهم من الخارجين عن الإخوان بأنهم خرجوا عن الإسلام، فإن المعارضين لإعلانه خرجوا عن المواطنة والإسلام في آن معا.. الخلط هنا في أن الشعب المصري مسلم وليس بالضرورة إخوانيا!

القصور السياسي بيّن، فحتى لو أراد السيد محمد مرسي ومن معه الاستيلاء الكامل على حكم مصر وإحكام السيطرة عليها في سبيل تنفيذ مهمة مقدسة، فإن الطريق الذي اختاره لا يتناسب مع العصر، وأقل ما يقال فيه إنه وحد المجاميع المعارضة وعمق الصدع، وبعضها توسم خيرا، وبعضها انضم للركب في المرحلة السابقة خوفا من شرور «الفلول» لا حبا في «الإخوان». القصور ظهر في إفلاس ترسانة «الإخوان» السياسية من استيعاب فترة احتضان طويلة، لقد قفزوا بسرعة من أجل «ديكتاتورية» ودودة، متجاهلين أن الشعب لم يعد يهضم أو يستسيغ أي نوع من الديكتاتورية.

لا يمكن أن تستوعب مصر، بعد طول عناء، القطبية المُحسنة في عصر اختلف كليا عن العصر السابق، كما أن «الإخوان» يستعجلون كثيرا في استهلاك مخزونهم السياسي ورصيدهم الشعبي. تقودنا الأحداث ويدفعنا الحس السليم إلى القول إن طريق الإكراه لم يعد طريقا يؤدي إلى نتائج إيجابية.. من هنا، فإن الطريق السياسي في مصر يبدو الآن مسدودا وينذر بكثير من الاضطراب، فلا يمكن أن «تُفتح مصر في سنة أولى حكم».

آخر الكلام:

لا أعتقد أن خيارات حزب الكتائب اللبناني تاريخيا كانت خيارات موفقة، إلا أن دموع سامي الجميل في حوار بث الأسبوع الماضي على قناة «المستقبل» اللبنانية، قد هزتني عندما تذكر اغتيال أخيه الأكبر غدرا، ويبدو أنها دموع المقهورين.. وهم ليسوا بالعدد القليل في لبنان!