السلمون الإنجليزي في المياه العربية

TT

تحكي قصة الفيلم الإنجليزي الدرامي «صيد السلمون في اليمن» حكاية ثري يمني قرر أن يقدم مبلغ 50 مليون جنيه إسترليني لمركز بحثي في علوم الأحياء البحرية في لندن من أجل أن يستزرع سمك السلمون الإنجليزي في مياه اليمن.

أوكل الثري العربي المقيم بين إنجلترا واليمن لموظفته الإنجليزية الذكية مهمة إبرام الاتفاق مع أحد أبرز باحثي الأحياء لتنفيذ المشروع. الباحث المستهدف، وهو بطل الفيلم، سخر من الفكرة وصاحب الفكرة، واتهمه بالجنون لأنه يبعثر أمواله في قضية خاسرة لن يكتب لها النجاح.

الموظفة المكلفة بإقناع مواطنها الإنجليزي حاولت جاهدة أن توضح له أن المشروع يمثل حلما مدفوع الثمن للشيخ اليمني، فهو مستعد لدفع كل التكاليف مهما بلغت، فاستقبلها ساخرا: «وماذا عن درجة الحرارة؟ الجزيرة العربية منطقة ساخنة معظم أيام السنة». أجابته بأن هناك مناطق في اليمن تقل فيها درجة الحرارة عن 20 درجة مئوية. فأتبعها بسؤال تعجيزي آخر: «وماذا عن المياه؟ الجزيرة العربية شحيحة المياه، فأين سيسكن السلمون؟»، فحددت له على الخريطة منطقة مياه جوفية ومناطق تجمع للأمطار، فرد بازدراء: «إذا بنى شيخكم سدا لحجز مياه الأمطار فاتصلوا بي». أجابته مسرعة: «السد تم بناؤه وجاهز للعمل».

أسقط في يده، كلما فتح لنفسه بابا للهروب أغلق في وجهه، فما كان منه إلا أن استسلم وقبل العرض.

العائق الوحيد الذي أخذه على محمل الجد أن الصيادين الإنجليز اتحدوا مع مسؤولين عن حماية البيئة وشكلوا «لوبي» صارما لمنع خروج سمك السلمون من الأنهار الإنجليزية مهما كان الثمن.

لكن من حسن الحظ أن الحكومة البريطانية كانت تبحث عن مشروع لتحسين صورتها أمام العرب والمسلمين خاصة بعد حرب أفغانستان، فما كان من مسؤولة العلاقات العامة في رئاسة الوزراء سوى التفكير في مشروع مشترك بينهم وبين أي دولة عربية لتجميل وجه الإنجليز في الشرق الأوسط، فوجدت ضالتها في مشروع السلمون المتعثر. قررت المساعدة باسم رئيس الوزراء، فجلبت السلمون من مزارع السمك، وليس من الأنهار، أي أنه تربى تربية صناعية وليس في الطبيعة، مما يجعل احتمالية تكيفه مع المياه اليمنية ضئيلة للغاية، ولكن لم تكن هناك خيارات أخرى.

تم شحن سمك السلمون في حاويات ضخمة من شمال أوروبا وحتى جنوب الجزيرة العربية، إلى مقر السد حيث المياه وفيرة وباردة. وصل السمك بالسلامة حيا يرزق، وما هي إلا أيام حتى يختبروا التجربة الفريدة.

ما حصل أن بعض أفراد القبائل اليمنية شعروا بأن هذا المشروع أشبه بالاستعمار الإنجليزي، وأنه سيكون ذريعة لاحتلال أرضهم ومشاركتهم في أرزاقهم، وأن صاحبهم الثري اليمني ما هو إلا عميل للإنجليز. ونتيجة لهذه المخاوف حصل ما لم يكن في الحسبان؛ فلم يكد أفراد فريق العمل يبتهجون بمؤشرات تنبئ بنجاح سباحة السلمون، حتى قام هؤلاء المتشددون بفتح السد، وإغراق الأرض بالمياه، معلنين نهاية المشروع عند هذا الحد.

ساد جو من الإحباط بين أفراد فريق العمل، فكل جهودهم ذهبت هباء بسبب متطرفين لم يفهموا، أو لم يريدوا أن يفهموا، أو لم يُرد لهم أن يفهموا، أن مثل هذا المشروع وإن بدا في مضمونه لا يمثل البيئة اليمنية أو العربية فإنه أظهر بوادر نجاح يمكن أن تغير مصير المنطقة اقتصاديا وثقافيا.

للحبكة الدرامية ترك مخرج الفيلم النهاية مفتوحة، ففي أجواء اليأس دبت حركة في المياه، وشوهدت سمكة واحدة تسبح، سمكة واحدة كانت كفيلة بإحياء الأمل من جديد.

الثري العربي لم ييأس، وبدأ في تهيئة الباحث الإنجليزي بأنه سيعيد الكرة، وأن ما حصل من هؤلاء المعتدين يتحمل هو كابن للمنطقة جزءا من مسؤوليته، لأنه فاجأ الأهالي بفكرة لم يألفوها، والأسوأ أنه لم يشاركهم في تنفيذها، فشعروا بالهلع من المشروع الغريب وأصحابه الغرباء.

انتهى الفيلم والمشاهد غير موقن من نجاح التجربة، ربما ستنجح بالكامل أو جزئيا، وربما سيصيبها الفشل خلال ساعاتها الأولى، المهم أن الفرص متاحة.

أجزم بأن كل عربي شاهد الفيلم وصلته الرسالة التي وصلتني. سمك السلمون يرمز إلى الكثير من الأمور المتعلقة بالاختلاف الثقافي؛ ثقافة الاندماج ومقاومة الاندماج. هل يرمز السلمون إلى الديمقراطية، أم مبادئ حقوق الإنسان، أم ثقافة البحث العلمي؟ أم كل ذلك وأكثر من كل ما استوردناه من الغرب وظننا أنه سيجلب لنا النفع، وأن التوفيق سيكون حليفنا لنغدو مثل أوروبا المتحضرة إن نحن استعرنا علماءها وخبراءها وأنظمتها وقوانينها؟

استرجعت أحداث الفيلم وأنا أستمع للإعلان الدستوري الذي صفع به الرئيس المصري محمد مرسي الربيع العربي. ولم أفهم حتى الآن لماذا قرر مرسي تفجير السد وإغراق الأرض بالمياه في مشروعه الوليد.

الديمقراطية الغربية البريئة تعاني اليوم في ميدان التحرير من صداع نصفي، تسبب فيه نصف الناخبين الذين اختاروا مرسي رئيسا حينما كان يمنيهم بسراب الديمقراطية، وهذا الإحباط الذي جرى على كل المتفرجين لن يقف عند مصر، وعلى تونس المحتقنة والكويت المترقبة أن تحذرا من أن تغرق أسماكهما.

في هذه الأجواء الصادمة هل توجد سمكة وحيدة تمثل الأمل تسبح في أجواء المياه العربية اليوم؟ لنتفاءل ونقل إننا نراها، إلا أن المشكلة أن الأمل موجوع ويحتاج إلى استطباب بالثقة والإخلاص والوضوح، وإلا تحول هو الآخر إلى سراب.

[email protected]