«حماية الثورة» أم «ولاية المرشد»؟

TT

قبل أسبوعين هنا، أبديت خشية شديدة من أسلمة «الفرعون» بسبب انتقال الحالة السياسية في مصر إلى مرحلة جديدة بعد أن ابتلع الإخوان المشهد بشراسة، لكن الأمر بدا مفاجئا جدا حتى لأكثر المدافعين عن الإخوان الذين بدأوا الآن يطلقون حملات «التبرير» للانقضاض على الثورة، وكان ولا شك استعارة مفهوم «حماية الثورة» اللينيني لتسويغ كارثة «امتلاك الدولة» وكسر سيادة وهيبة القانون والقضاء، وهو أخطر انقلاب يمكن أن تواجه به أي دولة حديثة. بالطبع يمكنك التحايل على الديمقراطية، الاتكاء على الماكينة الدعائية في تضخيم حجمك على الأرض، التحالف الهش مع تيارات متطرفة، وأيضا استغلال المنابر وخطب الجمعة لتأييد رؤيتك السياسية، لكن أن تطلق رصاصة الإعدام على جسد السلطة عبر أهم تمثلاتها «سيادة القانون» فهذا يعني بداية عهد «الشمولية»، ليس على طريقة الأحزاب الأوروبية الشمولية التي عرفها التاريخ، وإنما عبر «ملء الفراغ» الذي مارسته الثورة الإيرانية التي ما زال بعض قيادات الإخوان يصرحون بأنها ألهمتهم الكثير.

«حماية الثورة» كان إنجاز لينين الأثير بعد أن خرج بضرورة إعادة صياغة مفهوم الثورة الذي صنعته تيارات مختلفة إلى توحيد الجماهير وحمايتهم ضد أي تأثيرات سياسية خارجية، ولأجل «حماية الثورة» أنشأ حلقة ثورية من المستشارين كانت تعرف بعصبة النضال المبررين لكل تصرفات الحزب / الجماعة وما يصدر عن قائدها / مرشدها «الثوري»، الأمر تطلب كما هو تعبير لينين «حالة طوارئ دائمة ضد تذبذب الحالة السياسية».

«المركزية الديمقراطية» التي طورها لينين بعد ثورة 1905 هي أقرب ما يمكن وصف ما يريده الإسلاميون من الربيع العربي، وإذا كانت الدول الربيعية الصغرى ما زالت تعيش حالة جنينية بسبب تردي الوضع السياسي، فإن الإخوان المسلمين قد أحرقوا المراحل وأرادوا أن يولد مشروعهم قبل اكتماله، وهو في نظري خطأ استراتيجي أملته ظروف مصر المحيطة بها أكثر من الوضع الداخلي لكي تنتقل سريعا إلى حالة «الاستقرار»، لا وقت لطبخ الدستور على عجل وإيجاد صيغة توافقية بين كل أطياف المجتمع المصري السياسي الذي يبدو أنه قد وجدوا ضالتهم في التنظير والحديث المثالي النخبوي في مرحلة الفراغ السياسي الذي يعيشه البلد، هذه السيولة للأفكار السياسية في مصر لا تعكس دليل عافية، وأعتقد أنها المحرض الأول لمحاولة الانتقال إلى «المركزية» التي يحاول إرساءها الإخوان عبر قرارات الرئيس المصري الأخيرة، والتي أيضا تحاول إيجاد «نواة» صلبة كالتي تحدث عنها لينين دائما تدفع إلى وحدة مركزية (لجماعة الإخوان والمتحالفين والمتعاطفين معهم) وليس إلى وحدة رأي تعبر عن كل اللاعبين في مصر «التعددية»، فلا هي التي صنعت الثورة كما في الحالة الروسية القديمة، ولا حتى تملك مقومات «إيران» الثورة التي تختلف عن الحالة المصرية كثيرا، بحيث لا يمكن إنتاج «ولاية مرشد» على غرار ولاية الفقيه، تراتبية ونفوذ رجالات الدين في الثورة يختلف تماما عن موقع الإخوان كحركة «سائلة» لا هي بالممثلة للشرعية الدينية حيث يفوقها السلفيون عددا لكنهم دون تنظيم، ولا هي أيضا معبرة عن حركة ساهمت في الثورة بشكل يفوق باقي القوى المدنية التي تنازعها أصلا روايتها عن صناعة 25 يناير.

ما يملكه الإخوان ليس في مصر وحدها، بل في كل أنحاء العالم هو حضور ككتلة متجانسة قائمة على عضوية وانتماء شبكي يجعلهم الأكثر تنظيما وقدرة على الحشد، كما أن تحالفهم مع القوى الإسلامية الأخرى يجعلهم كتلة افتراضية عملاقة في المشهد المصري أمام باقي الأحزاب الهشة والضعيفة، ومع ذلك لا يمكن رغم هذه الكتلة التي تبدو متماسكة خطف «الحالة السياسية» على الأقل ملف الأقباط، إضافة إلى ما تبقى من رمزية العمل السياسي الذي تمارسه الأحزاب القديمة، لكن الأهم أيضا صانعو الثورة «الشباب» الذي كان التحرير «مزاره» الروحي الذي يلجأ إليه كلما أحس أن ثورته في خطر، ولا شك أنها في أكثر لحظاتها حرجا بسبب أن «تمرير» الانقلاب الأخير على دولة القانون والمؤسسات سيمنح المشهد السياسي بوابة العبور نحو مزيد من الارتباك السياسي.

لا يمكن لكل دول الربيع العربي وعلى رأسها مصر أن تنجو من مأزق الانتقال من الثورة إلى الدولة إلا عبر خلق مقومات التعددية والتوازن للحالة السياسية، بمعنى آخر بناء خطوات حقيقية نحو ديمقراطية مستدامة، لا العودة إلى عهد عبد الناصر الذي كان أيضا على مذهب «حماية الثورة» حين كان ممسكا بالسلطة التنفيذية، كما يريد الرئيس مرسي الآن، في حين أن دوره الحقيقي هو أن يكون حكما بين المؤسسات مع منح البرلمان الاستقلالية للعب دوره.

خطورة ما يجري الآن هو أن لعبة شد الحبل بين الإخوان وخصومهم طالت القضاء وعبر أكثر القضايا حرجا، وهي استقلاليته التي لم يجرؤ مبارك على كسرها وإنما تحايل عليها عبر قانون الطوارئ واللجوء إلى المحاكم العسكرية، وحتى الداخلية في أوج قمعها كانت تمارس حيلها كتبديل أماكن احتجاز الموقوفين حتى لا تصدر أوامر الإفراج عنهم.

الكارثة أن يؤدلج القضاء على طريقة «مع» و«ضد»، فالانقسام السياسي والفكري الآن يطال العاملين في القضاء وسيحول دون استقلاله ولا شك، خصوصا مع انتهاء دور الرئيس الرمزي في الشؤون القضائية، وهذا ما قد ينتج عنه فقدان العدالة والأهلية له.

إذا كان الإخوان خسروا سياسيا بفوزهم الهش في الانتخابات، فإن من المؤكد تراجع شعبيتهم لدى الشارع المصري الذي مل من اللعبة السياسية كلها، وأصبح لا يفكر إلا بمشكلاته اليومية ومتطلباته المعيشية التي لا تبدو أنها على سلم اهتمامات المتصارعين سياسيا، وبالتالي مهما حاولت السلطة تهميش وتحييد القوى السياسية بسبب ضآلتها النسبية في ميدان التحرير مقارنة بمليونيات الجماعة، فإن ذلك لا يعطي مؤشرا حقيقيا على تأييد الشعب كما تصوره الآن الآلة الدعائية الضخمة للجماعة، الأغلبية الصامتة غير معنية بصراع الديكة في المشهد السياسي.

وأنا أكتب المقال كنت أشاهد إحدى أكثر اللقطات المتداولة على الـ«يوتيوب»: كهل مصري بائع متجول صادف الحشود والمظاهرات.. تساءل بقامته الفارعة كمتصوف غائب عن المشهد كله: «مين دول وزعلانين من مين؟ إيه بيجرى ومين المرشد اللي بيقولوا عليه يسقط؟!».. وحيرته التي بدت عليه جسدت لي ملامح مصر الآن.