طوباوية خطاب القطع مع الماضي

TT

لو حللنا مضمون خطاب النخب السياسية الحاكمة في بلدان الثورة، وتحديدا تونس ومصر، لخلصنا إلى مجموعة من الاستنتاجات المهمة؛ على رأسها أن أكثر المقولات والعبارات تواترا وتكرارا هي مقولة القطع مع الماضي وما يتفرع عنها من مقولات أخرى تصب في المعنى نفسه.

طبعا فكرة القطع في حد ذاتها مهمة في الفكر البشري بصفة عامة، لأنها تعكس جدلية المحو والبناء، والفشل واستئناف التجربة، والسقوط ثم التجاوز.. بل إن تاريخ البشرية كله يقوم في ظاهره على هذه الفكرة، لذلك كانت العنوان الرئيسي الذي يتصدر كل المراحل التالية للهزات المجتمعية.

فمقولة القطع مع الماضي التي لم يمر يوم واحد على امتداد قرابة السنتين السابقتين دون أن تنطق وتقال، هي من نوع المقولات التي حولتها النخب الحاكمة إلى سجل اللغة الخشبية.

إن البعد الطوباوي لمقولة القطع مع الماضي بدأ يُكشف شيئا فشيئا، وبانت طوباوية هذه المقولة وإلى أي حد هي مغتربة عن الممارسات السياسية والاجتماعية اليومية.

وحتى إذا ركزنا على الجانب الطموح والحالم في هذه المقولة؛ وهو القطع ثقافيا وقيميا مع مظاهر الفساد بشتى أنواعه ومجالاته، فإن أفضل من يمكن أن يقوم بهذه المهمة النبيلة هي النخب الثقافية والأكاديمية ونخب المجتمع المدني بشكل عام. فهي نخب بحكم تحررها من ممارسة الحكم تتميز بالمصداقية والمبدئية، وهي على علم بأن التربية على ثقافة وقيم جديدة، تتطلب الصبر والوقت والتعتق في الزمن وفي تراكم التجارب. فمن حق نخب المجتمع المدني والنخب الأكاديمية أن تكون طوباوية في منطلقاتها النضالية من أجل البديل القيمي والثقافي.

أما بالنسبة للنخب الحاكمة، فإن تبنيها لهذه المقولة سيكون شعارا «تشهره» حسب المقاصد السياسية، وتخفيه في سياقات تحتم فيها المصلحة ذلك. ومن ثم، فنحن أمام مقولة طوباوية مثالية يتراوح توظيفها وفق المصلحة والبراغماتية، مما يجعلها مقولة رئيسية في خطاب الكيل بمكيالين وخطاب الأطروحة المزدوجة.

ولقد رأينا كيف أن الأنظمة الجديدة في تونس ومصر لم تستطع تطبيق شعار القطع مع الماضي إلا في جوانب هامشية ثانوية؛ بل إنه حتى المتمعن في خصائص ممارسة الحكم لدى النخبتين الحاكمتين في هاتين الدولتين، سيلاحظ أن طموحات الخطاب بخصوص مسائل الحرية وحقوق الإنسان والمدنية والديمقراطية بعيدة عن واقع الممارسة، والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة، حتى إنه في بعض الأحيان ينتاب البعض الشعور بأن أكثر شيء تغير عما قبل الثورتين هي الوجوه والأسماء، وهو في حد ذاته يفند حصول التغيير!

وفي الحقيقة، فكرة الكتابة عن هذه الجزئية؛ أي طوباوية مقولة القطع، راودتني أثناء متابعة المعالجة المصرية والتونسية لأحداث غزة الأخيرة.. فالنخبتان تحمستا لهذه الأحداث المأساوية ورددت مواقف تُسوق فكرة أن الأمور قد تغيرت بعد ربيع الدول العربية الذي حملته دول الثورات. وغلبت الحماسة الكلامية والدبلوماسية موقف مصر وتونس.

وليس مبالغة القول إن معالجة مصر للأحداث في غزة والدور الذي قامت به لم يختلف في الحقيقة ولو قليلا جدا عن موقف نظام حسني مبارك السابق.

لقد برهنت أحداث غزة أن القطع مع الماضي في السياسة الخارجية وفي مقاربة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، مناورة سياسية تستخف بذكاء الشعوب العربية. كما أكدت المبادرة «الشطحة» التي قام بها الرئيس المصري محمد مرسي مؤخرا من خلال الإعلان الدستوري وتفويض كل الصلاحيات لنفسه، أن الانفراد بالحكم عقلية لم تمحها الثورة.

إن خطاب القطع مع الماضي خطاب نرجسي متضخم ومغالط، ونحن في أمس الحاجة إلى التواضع أكثر ما يمكن، وأن نكون أذكياء صادقين بحيث نتبنى مقولات طموحة.. نعم، ولكن غير كاذبة في ممارستها وفي مصداقيتها الدلالية، لأن المقولات القوية معنى وطموحا وحلما هي المؤهلة للحياة طويلا، في حين أن المقولات الشعارات هي كليبات وساندويتشات سياسية قصيرة العمر وقليلة الفائدة وسريعة الانكشاف.

ولعل أولى أمارات التبني الصادق لمقولة القطع مع سجل المقولات الخشبية، جعل الممارسة تنطق بحقيقة بدايات القطع وجديتها أكثر من التصريحات والخطب الموغلة ليس فقط في الوهم؛ بل في الإيهام أيضا.

ونحن شعوب ملت الإيهام والكذب بكل ألوانه والأبيض منه قبل الأسود!