الجزائر: حذار من شراك القوالب الجاهزة

TT

عندما يكون المنبر هو «الشرق الأوسط» والكاتب هو الدكتور احمد الربعي، والموضوع هو الجزائر فان هناك ما يجب ان يقال، احتراماً للمنبر وللكاتب وللقضية، لأن الأمر ليس أي كلام.

لقد رسم الدكتور الربعي في عموده المتميز بـ«الشرق الأوسط» يوم الخميس 15 اغسطس (آب) صورة ثلاثية الأبعاد لما يعانيه الرئيس بوتفليقة، وهو يحاول الخروج بالجزائر من آثار الفتنة الدموية التي عصفت بالبلاد عشرية كاملة.

وكان يمكن ان اتفق مع الكاتب في كل ما ذهب اليه، لولا انه وقع، وبحسن نية كريمة اعرفها فيه ولمستها شخصياً من حديثه معي منذ عدة شهور، في شراك بعض القوالب الجاهزة، ربما لأن المطبعة لا تنتظر، وربما ايضاً لأننا في الجزائر لم نقم بواجبنا كاملاً في شرح قضايانا واهتماماتنا.

قال الدكتور الربعي ان «مهمة الرئيس بوتفليقة ليست سهلة، ونقولها من دون تردد ان مفتاح نجاحه هو مواجهة المافيا السياسية، واحالة المفسدين الى القضاء، ومصارحة الجزائريين بواقعهم من دون المبالغة في قضايا الكرامة الوطنية الجزائرية، وبعض شعارات عفى عليها الزمن».

ولولا الجملة الأخيرة لكان اتفاقي مع الدكتور الربعي كاملاً ومن دون أي تحفظات. فالذي حدث هو ان الرئيس بوتفليقة من الرؤساء المعدودين في العالم الثالث الذي كان أشد قسوة على الأداء الحكومي في بلاده من أشرس المعارضين، وكانت صراحته تكمن في الاشارة الى كل الانحرافات الموجودة، أياً كان مصدرها والمستفيد منها، وراء حملات وجهت الى الرئيس من تيارات معينة، ترى انه ذهب بعيداً في صراحته وفي انتقاده للأوضاع.

وقد أشرت الى أسلوب الرئيس الجزائري في التعامل مع الأحداث عبر كتابات يبدو انها لم تكن بالوضوح المطلوب، ولقد كنت مضطراً الى استعمال الاسقاطات والتوريات لأن طبيعة الظروف فرضت عليّ ذلك، وكنت اثق ثقة مطلقة بأن وطنيين كثيرين عبر الوطن العربي قادرون على فهم ما ببين السطور وما وراءها.

لكن البعض كان يتصور ان على عبد العزيز بوتفليقة ان يتعامل مع خصومه بنفس اسلوب محمد علي باشا مع المماليك، وهي صورة لا تنطبق على الجزائر في أي حال من الأحوال، حيث ان الأمر لا يتعلق، كما يصور ذلك بعض البسطاء، بعدد من القطط السمينة او الذئاب الكاسرة، يمكن ان يتم التخلص منها بنفس الطريقة المسرحية، وتنتهي الحكاية على طريقة شهر زاد.

فلا جدال ان الفتنة الدموية خلقت مستفيدين في الداخل وفي الخارج (وقضايا الاستيراد جانب رئيسي تتجاذب خيوط اللعبة فيه بعض رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية والشركات شبه المتعددة الجنسيات).

لكن المشكل الحقيقي هو ان بعض المستفيدين موجودون في مواقع مختلفة وفي مستويات عديدة وعبر شرائح اجتماعية متعددة، وكلهم يدافعون بشراسة رهيبة عن مواقع النفوذ التي تحققت لهم نتيجة لاختلال القواعد السياسية وتبعثر مقاليد السلطة وتآكل الضوابط المدنية والاجتماعية.

من هنا كان المنطلق المنطقي هو العمل على تحقيق المصالحة الوطنية، اعتماداً على الوئام المدني واسترجاعاً لكل المعالم التي جعلت من الجزائر، في الستينات والسبعينات، قلعة للأحرار وملاذاً للمناضلين ودعما لقوى التحرر في كل مكان.

وهنا نجد ان أقوى اسلحة القيادة الشرعية هو التمسك بالشعارات الوطنية، التي لا يمكن، في أي حال من الأحوال، ان تكون شعارات عفى عليها الزمن.

فنحن ما زلنا نرى ان شعارات ثورة نوفمبر (تشرين الثاني) يجب ان تكون دائماً منطلق العقد الاجتماعي الذي يتوج شرعية السلطة الديموقراطية طالما كان هناك جيل اسمه جيل نوفمبر 1954، يتواصل معه جيل اسمه جيل يوليو (تموز) 1962، يعد العدة لجيل يتحمل مسؤولية القرن الجديد، حيث ان السلطة، كما يقول ناصيف نصار، هي الحق في الأمر، وهي علاقة بين طرفين متراضيين، ومن دون ذلك تصبح السلطة تسلطاً يتحول الى سيطرة.

وبذلك التراضي الوطني الناتج عن الايمان المشترك بمثل عليا وبقيم سامية وبنظرة مستقبلية واعية، تستطيع القيادة ان تستنفر اروع ما في الأمة من فضائل وأقوى ما في الشعب من قدرات، وهذا هو المطلوب بالضبط في الأزمات الكبرى.

وعندما تتنازل القيادة السياسية لأي بلد عن شعاراتها الوطنية تتحول من سلطة قيادة الى سلطة تسيير، قد يتضاءل تأثيرها الى مستوى متدن يدفعها، للحفاظ على وجودها وصلاحياته، الى استنفار الشعوب باستثارة غرائزها الاستهلاكية ونزعاتها الجهوية، وهذا هو المجال الخصب لكل انواع المافيا، التي تستطيع آنذاك ان تجد حلفاء وأنصاراً في اوساط شعبية، المفروض انها تتناقض عقيدياً مع كل انحراف اجتماعي او سياسي.

ويكفي ان نستعرض شعارات الحملة الانتخابية الأمريكية لكي نتأكد ان الأمر لا علاقة له بالعقيدة، التي جعل منها البعض، في عصر العولمة، عاهة سياسية كادت تكون عورة حضارية.

وهنا يأتي انزلاق آخر اصبح شبه قاعدة عامة لكثيرين ممن يتناولون الشأن الجزائري بتسرع يخلط احياناً بين ما حدث في الجزائر وما حدث في دول أخرى عبر المعمورة.

ولا يمكن ان يعتبر من باب «الحساسية الى درجة غير عادية» كما يقول الدكتور الربعي، ان يرفض الجزائريون مقولة ان «الجزائر هي احدى ضحايا سيطرة نظام عسكري يحكم باسم الحزب الواحد ويتم بذلك تدمير البنية الاقتصادية للمجتمع الجزائري، ونهب ثروات الجزائر وتوزيعها كغنيمة في يد عدد قليل من كبار المسؤولين المتحالفين مع عدد من المفسدين السياسيين».. الى آخر الفقرة الطويلة التي تعاملت مع تاريخ الجزائر المستقلة كمرحلة واحدة ليس فيها إلا السلبيات.

هذا هو الخطأ الشائع عند بعض المحللين، اذ يؤدي هذا بالضرورة الى احكام تُجانب الصواب واستنتاجات بعضها يثير الرثاء.

وليس من باب الحساسية المفرطة ان يشعر الجزائري بالأسى لأن اشقاء اعزاء نسوا كل ما قامت به الجزائر، ايماناً واحتساباً، خدمة لقضايا الوطن العربي والعالم الاسلامي، وكان هذا اولاً وقبل كل شيء، ايماناً بمثل عليا، كما كان، بنفس القدر، اعتمادً على سياسة داخلية، وجهت موارد الوطن لخدمة التنمية والاستجابة للحاجات المشروعة لكل مواطن، وبحجم مشروع من الاعتزاز بالمسيرة والحماس لانجازاتها والتجاهل، المعيب احياناً، لعثراتها واخطائها.

ومن حق الجزائري ان يرفض، وبغضب، كل ما يشبه استهانة برجل مثل محمد علي كلاي، التناسي اليوم بان الرجل كان بطلاً عالمياً، والتعامل معه كحطام رجل فتت مرض الباركينسونيزم قواه. وذلك مرض يصيب البشر ولكنه لا يصيب الشعوب، وخصوصاً الشعوب التي لا تبصق على ماضيها كما حدث في الاتحاد السوفياتي.

وهو لا يؤثر اطلاقا في شعب كشعب الصين، يتمسك بحضارته ويعتز برجالاته، من كونفوشيوس الى ماوسي تونغ، ومن صن يات صن الى شوان لاي وتسياو بنغ وزيمين، يفخر بايجابياته من دون عكاظيات ويعترف بسلبياته من دون كربلائيات.

والنظرة الموضوعية لمسيرة الجزائر تؤكد عدة حقائق، أهمها ان الجيل الذي ارتبط بمسيرة الثورة التحريرية والبناء الوطني كان مرتبطاً بجيش التحرير الوطني وبجبهة التحرير الوطني، وليس هذا وصمة عار يخجل منها الجزائريون او يتسترون عليها.

ولقد حكم هؤلاء الرجال البلاد، منذ استرجاع الاستقلال، بنظام وطني كانت له رؤيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي رؤية يتأكد صوابها عندما نلقي نظرة سريعة على جزائر الستينات والسبعينات، جزائر الحزب الواحد، التي كانت تستعد للتحول الى تعددية حزبية منطقية تكون الأحزاب فيها تعبيراً تنظيمياً عن حقائق سياسية اقتصادية اجتماعية، وجزائر الانتماء العربي الاسلامي الذي استقطب عداوات ساهمت في صب الزيت على نار الفتنة. ولقد استعرضت كل ذلك طولاً وعرضاً في مقالات متعددة نشرتها «الشرق الأوسط».

والمؤكد ان الحزب الواحد أصيب بالترهل في الثمانينات، وأصبح مثل جبيرة الجبس التي تجاوزت المدة المطلوبة، وهو ما سهل تفجير الانتفاضة الزائفة التي افتعلت عام 1988، وأدت الى تعددية حزبية أتصور انها كانت واحداً من أسباب المأساة، لمجرد ان عناصر كثيرة كانت مستفيدة من وضعية الفوضى، التي ترتبط دائماً باختلال المقاييس وضياع الضوابط. (وأقارن من جديد بين وضعية الحزب الواحد الذي تهاوى في موسكو والحزب الواحد الذي ما زال قائماً في بكين لأقول إن القضية ليست قضية حزب واحد او تعددية بل قضية رجال ومبادئ وشعوب).

باختصار شديد، كانت مرحلة الردة التي عرفتها الجزائر في الثمانينات هي التربة الخصبة لمرحلة الفتنة في التسعينات، خاصة بعد ان أصبح من العسير مواصلة عملية الانفاق السفيه التي مارسها نظام الحكم بعد وفاة الرئيس بومدين، عندما ارتفعت اسعار النفط بدرجة غير مسبوقة، وهو ما اعتبر آنذاك عملية رشوة اجتماعية، طبقت نظرية الانفتاح الاقتصادي بخلفيات سياسية.

وعندما انهارت اسعار النفط لجأ النظام الى القروض قصيرة المدى عالية الفوائد. والباقي كله معروف.

وسيكون من الظلم والافتراء على التاريخ ان يقال إن الجزائر المستقلة هي «احدى ضحايا نظام عسكري»، حتى بالأسلوب التركي المبتكر، حيث المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو صاحب القرار الأول في ما يتعلق بالحياة السياسية، رغم الفولكلور الديمقراطي، ولكن احداً لا يجرؤ على قول ذلك صراحة.

وليست تركيا وحدها هي التي تحكم عسكرياً، ويكفي ان نتخيل لحظة واحدة اختفاء الجيش من بعض نظم الحكم المتألقة في عالمنا الثالث.

ولعل المثال الذي يجب ان يكون في أذهاننا، عند الحديث عن الجزائر ومع كل ما يمكن ان يستثيره المثال من سخط بعض الأشقاء، هو المثال الاسرائيلي، حيث تولى تسيير الحكم في البلاد رجال جيش الدفاع الذي أقام الدولة وسهر على حمايتها.

ومن بن غوريون (الذي يدخل اعتباره مجرد سياسي مدني في اطار الاختلاف) الى رابين وبيريز وباراك وشارون وايتان وموردخاي... وغيرهم، نجد ان هؤلاء ساهموا في قيام اسرائيل وفي استمرارها، مع فرق المشروعية التاريخية الصادقة عندنا والمنتحلة عند قادة اسرائيل.

وبقي ان أقول ان الظاهرة الاسلامية في الجزائر ليست وليدة التسعينات او الثمانينات، بل هي رصيد متجذر في الشعب الجزائري منذ الفتح الاسلامي.

ولهذا حديث آخر.

* كاتب جزائري