شرطة وشعراء

TT

للجميع أطالب بالخبز والملكوت وبالأرض للفلاح المعدم فلا يأملن أحد مهادنة لا من دمي .. ولا من غنائي لكن التخلي عن حبك سيكون الموت لي

*** قالها نيرودا الجميل كسنبلة محمصة بضياء الشمس ومثقلة بوعود الخبز المقمر.

كان ينشر الجمال أينما حطّ، وكيفما ارتحل، حتى لو كان بين الشرطة «أي واللّه الشرطة»!! فمن أطرف ما قرأت في مذكرات الشاعر التشيلي، أنه مدين بأهم صداقات عمره إلى الشرطة الفرنسية التي عملت على تعريفه بالكاتب الروسي (إيليا ايهر نيبورغ) الذي ترجم أعمال (نيرودا) إلى الروسية.

يقول (نيرودا) في تلك القصة إن الشرطة الفرنسية دأبت على تقديم تقارير إلى قصر (فرساي) تؤكد قيامه مع زوجته (ديليا ويل كارمن) برحلات متكررة إلى إسبانيا، حيث يوصلان ويعودان بتعليمات السوفييت إلى فرنسا، ومرجعهما في ذلك الكاتب (إيليا ايهر نيبورغ). وزيادة في السرية ـ كما تقول التقارير ـ استأجر الأديبان شقتين في عمارة واحدة، حتى تتسهل لقاءاتهما بعيدا عن أعين رجال الشرطة.

نيرودا، الذي لا يعرف (ايهر نيبورغ) أثار موضوع التقرير مع الخارجية الفرنسية وحينما لم يرد عليه أحد، توجه إلى المقهى الذي يجلس فيه الأديب الروسي ووقف أمام الكاتب الكبير، وقدم له نفسه بقوله:

«بناء على أقوال الشرطة، فنحن صديقان حميمان، وبما أنهم سيطردونني بسببك من فرنسا، فقد أردت أن أعرفك عن قرب قبل ترحيلي».

ويعلق (نيرودا) على هذا التعارف فيقول «يجب أن أعترف أن الشرطة الفرنسية منحتني ـ من دون أن تقصد ـ أكثر الصداقات محبة في حياتي، وزودتني ـ من دون علمها ـ بأحسن مترجم إلى اللغة الروسية».

وإذا كانت الشرطة الفرنسية المدربة تغلط بهذا الشكل الفاحش، فما هي الحال مع شرطة بلاد ليس عندها من تكنولوجيا الاستخبارات إلا النظارة السوداء والجريدة المثقوبة التي يستخدمها المخبرون التقليديون في مراقبة الضحية التي تكون في معظم الحالات أذكى منهم.

إن أخطاء الشرطة وسمعتها الطيبة في الأيام الخوالي، جعلت الناس يطلقون على المهن الكريهة أسماء تبدأ كلها بحرف الشين، فمنذ أيام سفر برلك كانت الشرطة واسمها الدلع في تلك الأيام (جندرمة) تفرض الاتاوات وتفرق الأحبة، وتقوم بتنفيذ الرغبات الشريرة كافة للصدر الأعظم والوالي. ومساهمتها الوحيدة في دعم الاقتصاد الوطني كانت تتلخص في ترويج صناعة العصي والكرابيج التي كنا نصنعها محلياً إلى أن نافسنا اليابانيون في صناعة أدوات التعذيب وتصديرها إلينا بأسعار لا تقبل المنافسة.

وما عداوة (نيرودا) مع الشرطة الفرنسية إلا صورة معاصرة من ذلك العداء التقليدي بين الشرطة والشعراء، وهي عداوة تبدو مرشحة للاستمرار رغم تبرع الشرطة بتقديم خدمات غير مقصودة كتلك التي قدمتها لشاعر تشيلي الكبير، الذي كان محظوظاً فمات قبل أن يشاهد ما فعلته شرطة بلاده في أيام (بينوشيه) برموز الضمير الوطني من الشعراء والفنانين والمفكرين.