أغسطس بينوشيه

TT

تنقل الجنرال اغوستو بينوشيه في السنوات الثلاث الماضية ما بين عاصمته، سانتياغو وما بين الريف البريطاني الجميل مروراً بأحد مستشفيات هارلي ستريت. كانت الطائرة خاصة والمنزل الريفي قصراً وغرفة، «لندن كلينك» جناحاً واسعاً يليق باستقبال مؤيديه، خصوصاً المسز مارغريت تاتشر، التي تقول اغنية فرنسية عنها: «الرجال اشعلوا الحروب، فيما عدا المسز تاتشر، الرجال نكلوا بالسجناء، فيما عدا المسز تاتشر، الى آخره».

في الطائرة الخاصة وفي القصر الريفي وفي الجناح الخاص، كان اغوستو بينوشيه مطارداً هارباً من القانون. وقد ازعج جيرانه في الريف الهادئ بسبب الحراسة وازعج جيرانه المرضى بسبب التظاهرات التي كانت تهتف تحت النافذة: رد لنا اولادنا. ردّ لنا ازواجنا. ردّ لنا بناتنا، لكن من اين يردهم السنيور بينوشيه؟ لقد رماهم من الطائرات في مياه البحر وربطهم الى حجارة ثقيلة قبل ان يغرقهم في قاع الانهر، حيث لا يعود لهم اثر ولا صورة ولا تذكرة هوية. انهم اناس لم يأتوا الى هذه الحياة. ولم يولدوا او ينشأوا في شوارع سانتياغو الجميلة وازقتها المشجرة. انهم مجرد هوام اعطوا الجنرال اغوستو، فاثقلوا على كتفيه المذهبيين فنفضهم عنه الى القاع، مالحاً وحلواً.

لذلك ستحاكم التشيلي الآن ديكتاتورها السابق بتهمة واحدة: الخطف، وليس القتل. فلا وثائق تثبت وجود جثث ولا تراب ينفض عن الهياكل العظمية. ولذا بقي للمحقق ان يوجه الى احد اشهر الجناة في القرن الماضي، تهمة واحدة هي الخطف. ولم يعد هناك ضرورة لمذكرة التوقيف الدولية ولا الى المزيد من الاختباء في احضان الريف البريطاني. هل سيعيد مثل هذا العقاب آلاف الشبان الذين ازالهم بينوشيه من دون مذكرة توقيف، من دون محاكمة ولو صورية شكلية مضحكة على الطريقة المهداوية؟ هل سيرفع العقاب حزن آلاف الامهات في التشيلي او في الارجنتين، حيث قررت المسز اولبرايت نشر الوثائق المتعلقة بزملاء بينوشيه من جنرالات بوينس ايرس؟

لا. الجثث لا تعود الى اكباد الامهات. والحزن الوطني يدخل حفظ التاريخ لكنه لا ينسى. والعقاب الذي ينزل بديكتاتور بلاد السمان والعنب، لا يساوي لحظة قلق واحدة في حدقة ام. لكن لا بدّ من عقاب ما. لا بدّ ان يعرف معذبو الشعوب وقاهرو الامم ان كل سيرتهم سوف تلخص في مذكرة توقيف صادرة عن الانتربول الذي يصدر مذكرات الاعتقال في حق المهربين وتجار الحشيش. لم يكن ممكناً ان يذهب السنيور بينوشيه الى التاريخ وهو مطمئن ان التاريخ هو فقط الكتب التي اصدرتها وزارة الاعلام وان الحقيقة الوحيدة في حياة الشعوب والامم هي الملصقات. ومثله مثل الجزار الصربي كاراديتش المشرد الآن في جبال البوسنة، يجب ان يدرك ان العدل ـ وليس هو ـ يضع الخاتم الاخير على المجازر المجانية. وليس مهماً على الاطلاق في اي طائرة خاصة يتنقل او في اي قصر ريفي يختبئ. فهو مجرد مشبوه مطارد من قانون العالم. لكن الفارق هنا ان القانون في يد المدعي العام والقضاء والمحلفين وليس في طائرات الهليكوبتر التي ترمي الشبان موثقي الاطراف الى القاع، عذباً او مالحاً.