صدق المعلومة.. والوقاية من الأمراض

TT

اتخاذ قرار الوقاية من الإصابة بالأمراض غير المُعدية، عبر اتباع سلوكيات نمط الحياة الصحية هو شأن خاص بكل إنسان، أي أن على المرء نفسه أن يتخذ هذا القرار ويتحمل تبعاته. وطريقة اتخاذ القرار مبنية على وزن مقدار الضرر والخطر risk ومقارنته بمقدار الفائدة والمصلحة Benefit. وتتلخص مهمة الأوساط الطبية في هذا الشأن في بذل كل جهد ممكن لتوصيل المعلومة الطبية الصحيحة والخاصة بكيفية الوقاية من الأمراض لكل إنسان يكون أكثر عُرضة للإصابة بأي منها. وإذا ما قامت الأوساط الطبية بمهمتها التثقيفية هذه خير قيام، أي وضحت صورة «الخطر والفائدة» للإنسان المعني، فإنه هو وحده يتحمل عواقب قراره وهو منْ سيجني ثمراته.

والسؤال هو: ما السبيل الذي على الأوساط الطبية سلوكه للقيام بأمانة تعريف وتثقيف الناس في جدوى اتباع وسائل الوقاية والثمرات المتوقعة منها؟ بمعنى هل أن الواقع يفيدنا أن الناس يعلمون ما هو المتوقع من نتائج اتباع تلك النصائح والإرشادات كمردود يُمكن أن يجنيه الإنسان، أي «يُقيمون» estimate النتائج بدقة أو تقريبا؟ أم أن هناك حالة من «الإفراط في تقييم التوقع» overestimate أو حالة من «تدني تقييم التوقع» underestimate؟

دعونا نراجع نتائج دراسة نشرتها مجلة «مدونات طب الأسرة» الأميركية Annals of Family Medicine للباحثين من جامعة أوتاغو في كريستتشيرش بنيوزيلندا، التي قام الباحثون فيها بسؤال شريحة من الناس بلغت نحو 360 شخصا، حول ما الذي يتوقعونه من عدد «أحداث» events سيتم منع حصولها لسيناريو اتباع 5000 شخص تتراوح أعمارهم ما بين 50 و70 سنة خلال السنوات العشر القادمة من أعمارهم، للإرشادات الطبية الخاصة بالوقاية. وتحديدا، كم من كل 5 آلاف امرأة ستموت بسبب سرطان الثدي إذا هن أجرين بانتظام الفحص المبكر بأشعة «ماموغرام» لتصوير الثدي، وكم من كل 5 آلاف شخص سيموت خلال السنوات العشر القادمة بسبب سرطان القولون إذا هم أجروا بانتظام تحليل البراز، وكم منهم سيموت بسبب ارتفاع ضغط الدم إذا هم تناولوا أدوية خفضه، بانتظام، وكم منهم سيُصاب بكسور الحوض إذا هم تناولوا أدوية تقوية العظام؟

النتائج كانت مفاجئة للباحثين، وستكون أيضا للأطباء وغيرهم، إذ أن النتائج أفادت 7% فقط توقعوا الصحيح بالنسبة لسرطان الثدي، وهو إنقاذ حياة 5 أشخاص، بينما «أفرط في تقييم التوقع» 90% من هؤلاء الأشخاص، وتحديدا أفاد 35% منهم أن إجراء أشعة الثدي ستحمي 1000 شخص من كل 5000 شخص خلال السنوات العشر القادمة! ونفس النتائج كانت بالنسبة لسرطان القولون، بينما الصحيح أن إجراء فحص البراز سيحمي أرواح 10 أشخاص إذا ما أجري الفحص بشكل منتظم 5000 شخص لمدة عشر سنوات. وكذلك أفاد أكثر من 80% توقعات مفرطة بالنسبة لكسور الحوض، بينما الحقيقة هي منع إصابة 50 شخصا بكسور الحوض إذا ما اتبع 5000 شخص للنصائح بتناول أدوية تقوية العظم خلال عشر سنوات. وكذلك أفاد 70% أن تناول أدوية ضغط الدم بانتظام لمدة عشر سنوات سينقذ حياة 500 شخص من بين هؤلاء الـ5 آلاف شخص، بينما الحقيقة هي: 100 شخص.

وأفاد البروفسور بن هيدسون، الباحث الرئيسي في الدراسة، بالقول: «لا نتوقع أن يعلم الناس بدقة ما هو المتوقع من اتباع نصائح الوقاية الطبية، ولكننا لاحظنا أن ثمة (إفراط) واضح في التوقعات. ولا أظن أن غالبية المرضى لديهم وسيلة لمعرفة الأرقام بدقة، وهذا جزء مهم من المشكلة». والمشكلة ليست فقط في عدم ذكر الأطباء والعاملين في الوسط الطبي للمرضى أو لعموم الناس ما هي التوقعات الحقيقية، وليست أيضا في ربما عدم معرفة الطبيب بالتوقعات الطبية الحقيقية المدعومة بالأدلة العلمية، بل تتمثل المشكلة أيضا في عدم معرفة بعض أفراد الوسط الطبي، أطباء وغيرهم، لمعنى هذه الأرقام وحقيقة مدلولاتها. وعدم معرفة الأطباء بدقة لمعنى الأرقام في التوقعات الطبية المستقبلية، سبق أن تم عرضه كمشكلة لدى الأوساط الطبية في أحد المقالات السابقة.

وعلقت الدكتور أنيتا أوكونر، الباحثة من جامعة أوتاوا والمهتمة بشأن دراسات تثقيف المرضى، بالقول: «غالبية الناس يُفرطون في التوقعات بناء على ما يُقال لهم حول الفوائد، دون ذكر أرقام محددة، من قبل أفراد الوسط الطبي. وإذا كان الأمر كذلك فلم عليهم أن يتوقعوا أنها أقل بكثير من الحقيقة». وهنا مربط الفرس، ذلك أن الطبيب حينما يمتدح سلوكا معينا أو يعيب آخر، على صحة الإنسان، فإن المستمع يتوقع أن تكون الفائدة عظيمة أو الضرر شديدا. بينما الحقيقة ربما ليست بالشكل الكبير الذي يفهمه الإنسان «العادي». ولذا أضافت: «الأطباء والممرضون وغيرهم ممن يوصلون المعلومة الطبية للناس لا يذكرون تفاصيل مهمة عن الدواء أو الفحص كي تعينهم في اتخاذ القرار». ولذا، كما يقول البروفسور هيدسون تنشأ حالة من الإحباط إذا ما أصيب المرء بالمرض رغم اتباع إرشادات ونصائح الوقاية.

لا تزال الأوساط الطبية مطالبة بالدقة في إيصال المعلومة للمريض، والبعد عن العموميات فيما يخص أرواح الناس وكيفية الحفاظ عليها.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]