الوسائل الفاعلة للاستفادة العملية من العقول العربية المهاجرة

TT

تعيش معظم البلدان العربية فترة لا تحسد عليها نتيجة هجرة العقول المبدعة والادمغة المفكرة الى الدول المتقدمة، الغربية خصوصاً، وبأعداد كبيرة تتجاوز عشرات الآلاف.

وتشير الاحصائيات الى أن اميركا تتصدر قائمة الدول التي تستقطب الكفاءات العربية المهاجرة، فاحصائيات مكتب الهجرة الأميركية عام 1979 توضح عن هجرة 70896 عربيا في الأعوام من 1972 إلى1977(1). ويقدر البعض عدد العقول المفكرة العربية التي هاجرت الى الغرب في السبعينات من القرن العشرين بحوالي 17 ألف مهندس عربي، و7500 عالم طبيعة و24 ألف طبيب مقيم في العالم الغربي (2).

وأسباب الهجرة متعددة منها الأوضاع السياسية المتردية والضغوط الاقتصادية المتنوعة (3) وتخلف المجتمع في ثقافته العلمية وعدم تقديره لابداعات وجهود العلماء، فضلاً عن تخلف وسائل التعليم وطرق الدراسة ووسائل الايضاح. كل هذا يجعل المجتمع غير قادر في خلق تكنوقراطيين اخصائيين يغنون المجتمع بكل نشاطاته وفعالياته كما هو الحال في الدول المتقدمة. وربما الأكثر من ذلك عدم توفر الوسائل والمعدات ومراكز التخصص المتطورة، الأمر الذي يوفر أرضية خصبة لحالة الاستقطاب وجذب العقول من قبل الدول المتطورة.

الوسائل العملية الفاعلة الاستفادة الواقعية من العقول المهاجرة لا تعني العودة بها الى أوطانها فهذه فكرة غير عملية وانما استثمار هذه العقول في اماكن وجودها. وقد سبقت الهند البلدان العربية والاسلامية في عقد الثمانينات من القرن العشرين إلى كيفية الاستفادة من العقول الهندية العديدة والمهاجرة الى اميركا وأوروبا الغربية ووصلت القناعة لدى الهنود ان تكون الاستفادة الأكبر من هذه العقول حيث هي. وتطور في ما بعد لبلدان العالم النامي ما يسمى بمشروع Diaspora Solution الذي يعني الحل المنطقي لضرورة استثمار العقول والطاقات المبدعة في اماكن عملهم في الدول الصناعية.

ومبادرة المنظمة الاسلامية (ايسيسكو) ورابطة العالم الاسلامي في هذا الميدان جيدة لأنه قد حان الوقت لوضع خطة عمل حول كيفية استفادة العالم الاسلامي من العقول والخبرات المسلمة في المهجر واستثمارها لتنمية وتطوير المجتمعات العربية.

ويستلزم بلوغ الأهداف المرجوة رسم خطط استراتيجية عملية على المديين القصير والمتوسط/ البعيد، تركز فيها على الطرق والآليات الفاعلة حول افضل السبل لاستثمار قدرات الأدمغة العربية في المهجر.

وقد تتضمن بعض هذه الآليات في المدى المنظور:

أولاً: الاستفادة من العقول العربية المهاجرة من خلال دعوتهم للعمل كمستشارين، عبر الأثير الالكتروني، لتقديم النصح والمشورات المجانية لمشاريع معينة تقام بمساعدة الجامعات ومراكز البحث والمنشآت الصناعية في العالم العربي. وقد يتم هذا الأمر عن طريق اتصالات مباشرة أو عبر منظمة صغيرة تمتلك المعلومات الكافية (اختصاصات، مراكز العمل.. الخ) عن العلماء العرب في المهجر.

والايجابية الأولى لمثل هذه الآلية العملية هي الحصول على المشورة والخبرة، عبر البريد الالكتروني (الانترنت) أو الفاكس.. الخ، بشكل فاعل وسريع.

والأمر الثاني وربما الأهم هو مجانية المنشورات التي تكون ملائمة للأوضاع الاقتصادية المتدنية وقلة الموارد المالية المتوفرة لمعظم البلدان العربية.

ثانياً: خلق قنوات العبور وجسور الاتصال بين علماء المهجر والبلدان العربية وذلك بعقد اللقاءات الدورية كالمؤتمرات العلمية Conferences والورشات العملية Work Shops وندوات النقاش Symposiums والمحاضرات التقنية Seminars وغير ذلك.

ويا حبذا لو يتم عقد بعض هذه اللقاءات كالورشات العملية والتجمعات العلمية في البلدان العربية بالتعاون مع الجامعات الاكاديمية العلمية ومؤسسات البحث للبلدان المضيفة ودعوة الشركات المصنعة المحلية لمثل هذه اللقاءات واحداث التشابك الضروري بين المصانع ومراكز البحوث العلمية والمؤسسات الاكاديمية.

وقد تشترك عدة بلدان محلية للتحضير أو تنظيم مثل هذه اللقاءات أو الورشات العملية.

فائدة الورشات العملية والفائدة الجمة من عقد هذه اللقاءات هي تبادل الأفكار وتلاقح الخبرات وفرز اللغة الضرورية للتعامل والتفاعل وتطوير آليات العمل حول افضل السبل المتوفرة لاستثمار العقول المهاجرة واحداث التداخل المطلوب بين علماء المهجر والبلدان العربية. كما تمكن هذه اللقاءات من التعرف على آخر التطورات العلمية والتقنية.

والايجابية الاخرى لمثل هذه الورشات العملية والندوات.. الخ هي خلق اللبنات الاساسية لمتطلبات أو احتياجات البلدان العربية في المجالات العملية، فضلاً عن خلق المنهجية في العمل وتوثيق النتائج وغيرها. وربما الأهم من ذلك قلة المصروفات المالية لعقد مثل هذه اللقاءات في البلدان العربية والاسلامية، مقارنة مع الغلاء الفاحش للبلدان الغربية والمصنعة الاخرى.

ثالثاً: الشروع بمشروع دعوة العلماء والخبراء العرب والاسلاميين المقيمين في الخارج لتقديم النصح والارشاد اثناء زيارتهم لبلدانهم الاصلية في اجازتهم السنوية.

وقد عملت الهند بهذا المشروع Know - How Scheme في عقد الثمانينات وأتى لها بالنفع الكبير. وقد يكون من المناسب التفكير في امكانية قضاء العلماء والتكنولوجيين العرب والمسلمين المهاجرين الاجازات العلمية Sabbatical Leave في البلدان العربية والمسلمة والتي تمنح لأساتذة الجامعات في الغرب والدول الاخرى لأداء البحوث العلمية في اماكن اخرى. وهي اجازات تتراوح فتراتها بين 3 و12 شهراً.

رابعاً: محاولة الشروع في اصدار مجلة علمية مرموقة باللغة العربية أو الانجليزية تعنى بنشر آخر التطورات العلمية والتقنية مع اجزاء منها حاوية أخبار وانجازات وبحوث العلماء العرب والاسلاميين في المهجر.

خامساً: لا يمكن ان تحقق الآليات والخطوات العملية المذكورة ما لم يكن هناك بنك معلومات Data Base or Data Ware House عن العلماء والتكنولوجيين العرب والمسلمين (كالاختصاصات، اماكن العمل.. الخ). وتكون الأولوية لأولئك الفاعلين في خدمة الجاليات العربية والاسلامية في اماكن اقامتهم في المهجر. وهذا ما يسهل خلق النواة الأولية لعملية التنسيق والاتصال بين هؤلاء العلماء والبلدان العربية والاسلامية.

سادساً: لا بأس من الشروع في دراسة تجارب البلدان الاسلامية التي تقدمت علمياً وتكنولوجياً في العقد أو العقدين الماضيين، كماليزيا واندونيسيا، للاستفادة من الخبرات العلمية والعملية حول كيفية ارساء البنى التحتية المطلوبة لاحداث التطور. والأهم من ذلك دراسة الأهمية القصوى التي اعطتها هذه البلدان (ماليزيا خصوصاً) لميدان التعليم والتدريب (4).

المدى المتوسط والبعيد أولاً: الشروع من الآن في تشخيص احتياجات البلدان العربية والاسلامية وزيادة هذه المتطلبات حتى يتسنى توفير الحلول العلمية وتطوير الطرق التكنولوجية لتلبية هذه الاحتياجات والمتطلبات. وهذا يتطلب ليس فقط مشورة وارشادات العقول المهاجرة بل استثمار الطاقات والخبرات المحلية (فالقدرات والابداع والخلق ليست محصورة بمكان أو زمان) للقيام بالمشاريع المطلوبة وحصول التفاعل أو التلاقح الضروري مع الادمغة المسلمة المهاجرة.

لا يمكن بسبب الفاصلة التكنولوجية الكبيرة Technology Gap تطبيق كل الحلول والخيارات الموجودة في الغرب والدول المصنعة الاخرى على البلدان العربية والاسلامية بسبب اختلاف ظروف الطقس وتباين العادات والقيم الاجتماعية وطبيعة الشعوب وغيرها.

فمن الضروري دراسة تجارب التكنولوجيا البديلة (أو الوسط) Intermediate Technology المطبقة في بعض بلدان العالم الثالث التي قد تكون مفيدة لتوفير الحلول وتلبية المتطلبات لبعض المجتمعات العربية والاسلامية.

ثانياً: دراسة النظم المعرفية وتركيبات المؤسسات البنوية في الدول المتطورة (عن طريق الادمغة المهاجرة) باسهاب وعمق كمحاولة لنقل وتأصيل التكنولوجيا وتطبيق ما هو نافع للعالمين العربي والاسلامي.

المفاتيح الرئيسية للقرن الواحد والعشرين ثلاثة وهي التكنولوجيا والاتصالات اللذان يشكلان قاعدة المثلث ورأسه المتمثل بالميديا والاعلام ولأجل توطين تقنية هذه المفاتيح الاساسية وخلق الحركة المطلوبة في الانتاج العلمي يتوجب التنسيق بين جهود السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، اضافة الى العلماء والتكنولوجيين. وهذا ما يتطلب فرز آليات عمل بين هؤلاء لانجاز اللقاءات المثمرة التي تتم على ضوئها مساعدة العلماء والاقتصاديين للسياسيين في عملية اخذ القرارات المهمة بهذا الشأن (5).

ثالثاً: المساهمة في نشر ثقافة العلم وتطبيقاته التي هي مفقودة في العالمين العربي والاسلامي.

وذلك بإبراز أهمية العلم والثقافة من خلال وسائل الميديا والاعلام، كالتلفزيون والراديو والصحافة، حتى تتم توعية المجتمع بهذا الأمر المهم.

وقد يكون من المفيد ان تتطور المجلة العلمية الآنفة الذكر الى ان تصبح نشرات متخصصة ينشر فيها آخر التخصصات مع دراسات عن امكانية اقامة مشاريع تقنية علمية واقعية تتلاءم مع ظروف وموارد العالم العربي والاسلامي.

رابعاً: دراسة امكانية التعاون مع المنظمات العالمية الكبيرة، الأمم المتحدة (اليونسكو) والمنظمات العلمية للاتحاد الأوروبي وغيرها في مسائل الارشادات والتمويل.. الخ.