كاراكاس.. هل تريد مواجهة واشنطن من بوابة بغداد

TT

خطوة الرئيس الفنزويلي (شافيز) بزيارة بغداد ضمن اجندة زياراته لدول المنطقة الاعضاء في منظمة «أوبك» اثارت غضب المسؤولين الاميركان، وبدت مفاجئة للمراقبين في تحديها للهيمنة السياسية الاميركية .

وراح البعض يفسر موقف الرئيس الفنزويلي بأنه نوع من نقل المعركة السياسية بينه وبين الاميركان من كاراكاس الى بغداد، وتعبيرا لهم بالاستقلالية الجديدة التي انتهجها منذ وصوله للحكم عام 1998.

ولاخراج هذا الموقف من الاحكام المتسرعة المباشرة، لا بد من اطلالة خاطفة على دوافع وخلفيات السياسة الفنزويلية، ومؤثرات الموقف الاميركي فيه، خصوصا في العامين الاخيرين.

فنزويلا احدى الدول المؤسسة لمنظمة «اوبك» في مؤتمر بغداد التأسيسي عام 1960 الى جانب كل من السعودية والكويت والعراق وايران، ويشعر الفنزويليون بأنهم اصحاب فلسفة وحدة الدول المنتجة للنفط، وان النفط هو القاعدة الدبلوماسية التي ميزت هذا البلد عن غيره من بلدان القارة اللاتينية في علاقته بالبلدان العربية النفطية، وجعلته اكثر اقترابا في المواقف السياسية من دول اميركا اللاتينية في قضايا العرب، خاصة القضية الفلسطينية. وحينما حمى الاميركان كرسي حكم «الرئيس بيريز» في لحظات انقلاب «شافيز» الذي كاد ان ينتصر، اشترطوا عليه في ما بعد اضافة الى معالجة ازمته الاقتصادية في شروط البنك الدولي المعروفة (تعويم العملة الوطنية ورفع الحماية عن اسعار المواد الغذائية وفرض المزيد من الضرائب) ضرورة التخلص التدريجي من منظمة «اوبك» عندما كانت سياستها حينذاك لا تلبي مصالح الشركات الاميركية الاحتكارية. وكانت هناك اصوات من داخل المؤسسة النفطية الفنزويلية PDVSA تشجع الوصول الى هذا الهدف، لكنها لم تتمكن من الغلبة على موقف الرأي العام الاقتصادي الفنزويلي خاصة بعد خروج الرئيس الفنزويلي (بيريز) من الحكم عام 94 بفضيحة مالية، وفوز «كالديرا» في الانتخابات وهو المعروف بوطنيته كرمز للديمقراطية في فنزويلا، واطلاقه سراح زعيم انقلاب 92 العقيد «شافيز» من السجن عام 94 قبل اتمامه مدة الحكم وهي ست سنوات. وكان تعبير فنزويلا عن سياستها في دعم «اوبك» وضرورة بلورة موقف جماعي من أزمة العلاقة بين الدول المنتجة والمستهلكة للنفط، ومن ثم ايجاد مخارج للعلاقة بين دول الشمال والجنوب، عقدها للمؤتمر العالمي للطاقة (بورتاكلوس ـ فنزويلا) في سبتمبر (ايلول) عام 95.

ومن جانب آخر دخل العسكري شافيز الخارج من سجن الانقلاب شوط المعركة الديمقراطية من دون حزب سياسي سوى معتقداته الوطنية العامة (البوليفريانية) التي يشاركه فيها غالبية المواطنين الفنزويليين المؤمنين بافكار المور «سيمون بوليفار» واليائسين من شعارات الحزبين (العمل والديمقراطي المسيحي) اللذين تداولا السلطة خلال خمسين عاما من العهد الديمقراطي، في ظرف قاس يعيشه الشعب الفنزويلي من تضاعف حالة الفقر والتضخم الاقتصادي الخانق في بلد نفطي غني تعصف به مفاسد الادارة الديمقراطية في السرقات وانعدام التنمية الوطنية، وتجارة المخدرات، وتحويل السوق الفنزويلية الى ساحة للمنتجات الاستهلاكية الاميركية، فيما حرمت الولايات المتحدة المنتجات الفنزويلية، خاصة «الزراعية» من دخول السوق الاميركية تحت ضغوط اطلاق يدها في متابعة تجارة المخدرات، وتشكيل قواعد امنية اميركية داخل فنزويلا، والتحكم في سياستها النفطية.

واشنطن غير مرتاحة من فوز شافيز وقد كان فوز شافيز في الشوط الديمقراطي، المفاجأة الثانية للاميركان في اميركا اللاتينية، بعد مفاجأة فوجي موري الفائز بانتخابات الرئاسة في بيرو عام 92 وهو من خارج سرب الاحزاب البيروانية. ولم يكن فوز شافيز الفنزويلي بسبب الدعم المالي الخارجي لدول معادية للولايات المتحدة. فاللعبة الديمقراطية، وانعدام وزن الاحزاب التقليدية هي التي مكنته من الفوز عام 98، ولم تتلق الولايات المتحدة فوزه بالارتياح، ولهذا فعندما اراد زيارة الولايات المتحدة ضمن قائمة من الدول كتقليد للرئيس المنتخب قبل دخوله قصر الرئاسة، رفضت السلطات الاميركية منحه تأشيرة الدخول للاراضي الأميركية كتعبير عن عدم الارتياح. وخلال عامين من حكمه نفذ خلالهما العديد من شعاراته في اعادة الاصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد حيث اوقف نشاط الكونغرس الفنزويلي، معيدا قوانين فعالياته، وطهر المؤسسات الرسمية من عناصر الفساد الاداري، واعلن عن سياسة دعم منظمة «اوبك» واصراره على عقد مؤتمر لقمتها في كاراكاس في نهاية سبتمبر (ايلول) من هذا العام، وتجرأ على الدخول في انتخابات مبكرة قبل ايام فاز فيها بالرئاسة للمرة الثانية، واضعا نفسه في حقل الغام العلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ارثه السياسي القصير، وتجربته البسيطة، فلقد وضع ثكنته العسكرية في الخلف على الرغم من دعمها لحكمه، وحاول ان يجعل منها مؤسسة ذات خدمة وطنية عامة، حيث زجها في فعاليات بناء ما شهدته العاصمة كاراكاس من فاجعة كارثة العواصف المطرية التي قتلت أكثر من سبعين ألف مواطن، وهدّمت عشرات الألوف من المنازل في العام الماضي، وحاول أن يرسم لنفسه ولطاقمه السياسي الذي يضم بعض التيارات السياسية الوطنية ذات التراث النضالي في فترة الستينات، خطاباً سياسياً متوازناً في أسلوب ترتيب تلك العلاقات الخارجية مع دول أميركا اللاتينية، والدول الأوروبية واليابان، مع شعوره بالقلق من الاقتراب من الخطوط الحمراء في المواجهة مع الولايات المتحدة الممتلكة لقوى النفوذ في ميدان المؤسسة النفطية الفنزويلية ـ العصب الحساس في بناء الاقتصاد الفنزويلي ـ وكذلك المؤسسات التجارية التي تشّكل القوّة الاقتصادية المحركة داخل البلاد، والمرتبطة عضوياً بالشركات الأميركية، إضافة للرساميل الفنزويلية الموجودة في ولاية فلوريدا الأميركية. ولعل الرئيس شافيز قد تعلم في مدرسة الحكم الفنزويلي، أن الولايات المتحدة الباسطة هيمنتها في أبعد نقطة من مركزها، لا تسمح لحكام حديقتها الخلفية بالظهور بعدم الطاعة، وعلى ساحة حيوية لمصالحها السياسية مثل العراق، على الرغم من أن حكم الجغرافيا لا يمنح فنزويلا قدرة التأثير في أحداث بلد يبعد عنها آلاف الأميال ولا تمتلك معه مصالح تجارية يمكن أن تؤثر في الموقف سوى السياسة المشتركة مع الأعضاء الآخرين في دول «أوبك»، وهي المتهمة بخرقها قاعدة «نسبة الحصص في الانتاج النفطي بمقدار مائتي ألف برميل يومياً..».

البراجماتية الدبلوماسية لقد كان الموقف الدبلوماسي الفنزويلي خلال فترة اجتياح العراق للكويت عام 90 يدعو إلى انسحاب قواته، داعماً محاولات الدخول في حلّ سياسي مع شريكته الكويت في «أوبك»، كما عبّرت تلك الدبلوماسية بعد الحرب عن ضرورة رفع الحصار عن شعب العراق، والتزام حكومة العراق بالقرارات الدولية. ولم يجد مسؤولو الدبلوماسية الفنزويلية من خلال قراءتهم لملف العقوبات الدولية ما يمنع رئيسهم من هذه الزيارة التي لم تأت لهدف ثنائي مباشر، وإنما كجزء من جولة مقرّرة لغرض جماعي، وهو اجتماع القمة النفطية. وقد علق وزير الخارجية الفنزويلي (خوسيه فسنتي رانخيل) على نقد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركي (ريتشارد باوتشر) قائلاً «إن البرغماتية الدبلوماسية تمنعنا من أن نوجه الدعوة لبعض البلدان ونترك البعض الآخر «و» إنه لا توجد قيود أو شرطة منتشرة في العالم تمنع رئيسنا من زيارة أي بقعة يريدها، خاصة أن محطة بغداد تأتي بعد محطة الكويت الجارة للعراق».

في السياسة هناك تبادل للرسائل بين المتخاصمين لا ينقلها أصدقاء مشتركون فحسب، بل ينقلها مخاصمون مشتركون تعبّر عنها مواقف قد لا تكون مقصودة بذاتها، بل تترك آثارها في حسابات المواقف للأطراف المتخاصمة.

كاراكاس لم تصمم خطوتها الدبلوماسية لصالح بغداد، فلم يهدف الرئيس الفنزويلي شافيز لأن يكون بطلاً في كسر الطوق الدبلوماسي الرئاسي العالمي المفروض عليها، كأول رئيس دولة يزور هذا البلد منذ عام 91، بقدر ما أراد التعبير عن رده للأميركان الذين رفضوا منحه تأشيرة الدخول إلى أراضيهم عام 98.. ويصادف أن يكون هذا الرّد من بوابة بغداد.

واشنطن بعثت برسالة سياسية معلنة إلى بغداد عن طريق الوفد الفنزويلي تبلغه فيها «قلق المجموعة الدولية من الحكم العراقي الخاضع للعقوبات الدولية» وهي رسالة تحمل تفسيرات عديدة.

أما بغداد فإنها مرتاحة لهذه الخطوة الدبلوماسية الفنزويلية ليس لتطوير علاقتها الثنائية التي لن تتجاوز العلاقة النفطية من خلال «اوبك» بل تريد استثمارها في محاولاتها كسر الطوق الدبلوماسي المفروض بسبب العقوبات الدولية.

وبعد، فالرئيس الفنزويلي شافيز الذي يواجه في دورته الرئاسية الجديدة تحدّيات ضخمة في حلّ مشكلات بلده الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظّل مراكز القوى التجارية المرتبطة بالولايات المتحدة، وبسيادة القيم الاجتماعية والأخلاقية التي زرعتها أميركا في هذا البلد المجاور منذ عشرات السنين، سيتعرّض إلى هزّات سياسية كبيرة في ما لو اختار سياسة رفع الشعارات «الاستقلالية»، والخروج الدراماتيكي من قبضة الهيمنة الأميركية، وهذا لا يعني الدعوة لارتماء نظام حكمه في التبعية.. فما بين التبعية والاستقلالية مسافة لا يحسن استخدامها سوى السياسيين المبدعين في بلدان العالم الثالث، وأمامه، المثل المجاور الذي يقود من خلاله الرئيس فوجي موري بلاده بيرو في القدرة على احكام التوازن السياسي مع الولايات المتحدة بما يخدم مصالح شعبه.. فللوطنية اليوم أحكام لا تقاس بمقاييس الماضي.

* سفير عراقي سابق