أكبر الحرائق تبدأ بعود ثقاب

TT

أكثر ما يجعلني cynical (متشككا) في البشر أن أبدأ مقالا بـ«ما حدث لم يكن مفاجـأة»؛ كإعلان الرئيس المصري محمد مرسي الدستوري (رغم عدم امتلاك الرؤساء قانونيا صلاحية الإعلان)، مانحا نفسه صلاحيات لم يحلم بها من انتقد «ديكتاتورياتهم»، كـ(حسني مبارك وبشار الأسد وصدام حسين)، علنا قبل وبعد أن أصبح رئيسا.

الرئيس المصري الراحل الكولونيل عبد الناصر الذي هدمت عسكرياريته البنية السياسية في مصر، لم يخطر بباله تدمير أحد أكثر نظم القضاء استقلالية ونزاهة في المنطقة، ولم يصدر قرارات جمهورية بوضع نفسه فوق مؤسسات القانون.

كنت أول Cassandra (ابنة ملك طروادة التي حذرت من خوض حرب تنبأت بتخريبها للبلاد) تطلق التحذير. وبالتحديد، في الثالثة بتوقيت غرينيتش، في الـ«بي بي سي»، السبت 12 فبراير (شباط) 2011، والجميع يرقصون برحيل مبارك. حذرت الثوار من إخلائهم ميدان التحرير قبل تكوين لجان تمثل الشعب، وقبل توقيع المجلس العسكري، بشهادة سفراء الدول الكبرى، على وثيقة قانونية بالعودة للدستور، وإلا فليسلموا مفاتيح مصر إلى شمولية إظلامية.

نبهت إلى أن العسكر بطبيعتهم عمليين لا ديمقراطيين، سيريحون دماغهم بعقد صفقة مع القوى المنظمة الوحيدة، وهي رجعية شمولية لا تعترف بالديمقراطية أو القوانين الوضعية. وقلت إن من أنجحوا الثورة الإيرانية بدمائهم تدلوا من مشانق ولاية الفقيه بعد عودته من باريس.

أغلب كتاب هذه الصحيفة كرر التحذير، فهاج علينا من اختلط في أذهانهم الدين الذي يسمو بالإنسان روحانيا في آفاق الخير، بالآيديولوجية السياسية لمن يزايدون بالدين، فاتهمونا بمعاداة الإسلام. وكما ذكر عبد الرحمن الراشد، الاثنين الماضي، أن عجز «الإخوان» عن تقديم مبرر يقبله العقل لقرارات مرسي دفعهم لاتهام «الشرق الأوسط» بالتحريض ضد حكم الإسلاميين.

وبخبرتي الطويلة بأفضلية الديمقراطية من أي نظام آخر، يسعدني الجدل مع تيارات تخالفني الرؤية، لكني درست ما يصلني على البريد الخاص لأشهر طويلة، لأستنتج by deduction أو بالشواهد الفعلية وجود ثقافة ذهنية جعلتني أتوقع ما حدث في مصر. تعليقات من إسلاميين يحملون جنسيات ديمقراطيات غربية بألقاب أكاديمية، وعناوين بريدهم تحمل اسم الجامعة أو المعهد دليلا على أنهم باحثون علميون، يفترض من تدريبهم قياس النتائج حسب توازن الأدلة العلمية كلها بلا انتقائية «ولا تقربوا الصلاة...»، لا بالعواطف؛ والاستشهاد بما يمكن قياسه علميا بدلا من الاستشهاد بفتاوى فقهاء ومرشدي الكيانات السياسية التي تحلق خارج إطار قياسات العلم وجدل المنطق.

لم يستفد الأكاديميون والعلماء - المنتمون اقتصاديا وقانونيا وجغرافيا للغرب - من الثقافة السياجتماعية للنظام الديمقراطي الذي وضعهم في مناصب رفيعة، ومنحهم امتيازات ومستوى معيشة وحرية تعبير لا يمكن أن يوفرها برنامج الجماعة التي يدافعون، بإصرار، عن استيلائها على الحكم في مصر، ويهاجمون المحذرين من الديكتاتورية كـ«عملاء للغرب».

دفعتني الاتهامات للتساؤل: إذا كان هذا حال إخوانجية يحملون جنسية غربية في مجتمعات تغير حكوماتها بالانتخاب، فما بالك بحال الغالبية الساحقة من إخوانجية مصر الذين لم يختبروا أي ممارسات ديمقراطية في سنوات عمرهم (لا يذكر العهد الديمقراطي سوى من تجاوز السبعين في مصر) ويتبعون المرشد مغمضي الأعين إلى الهاوية؟

كررنا التحذير بدروس التاريخ: الاشتراكيون القوميون (الحزب النازي) انتخبهم الألمان بإرادة حرة عام 1933، فألغى زعيمهم هتلر الديمقراطية «مؤقتا» لمعالجة الاقتصاد المنهار وبناء البلاد. ولم ترتح الدنيا من شروره إلا بعد 12 عاما من تدمير بلاده وخراب أوروبا ومصرع عشرات الملايين.

«الإخوان» يفوقونهم مكرا ودهاء. فلم يتحركوا إلا بعد عقد صفقة مع أميركا (على الأرجح، فالأدلة ظرفية لا مادية)، فكل قرارات الانفراد بالسلطة والتخلص من المؤسسات جاءت عقب لقاءات مع مسؤولين أميركيين كبار. «الإخوان» لن يجاهروا برغبة إلغاء الانتخابات، بل سيتستر الرئيس بورقة توت «الإجراءات مؤقتة» لتنفيذ مطالب الثورة «كمستبد عادل»، رغم أنها ورقة توت من عند ترزي ملابس الإمبراطور. مستبد عادل ككمال أتاتورك استخدم القانون لبناء دولة المؤسسات، بينما الإعلان الرئاسي «الدستوري» يلبس المؤسسات القانونية قميص مستشفى المجانين.

وبدلا من إلغاء الانتخابات، سيستفيد «الإخوان» من الحكمة الخمينية. تهدئة كبار القضاة باستقبالهم في القصر الجمهوري باحترام بالغ أمام العدسات، والقبول بحل وسط في لعبة فرق تسد، ورشوة شباب الثورة (ذي البراءة السياسية) بإلقاء جثة النظام السابق لتنهشها أنياب الانتقام، واستغلال سيطرة معاداة إسرائيل على عقولهم بلعب ورقة نصرة غزة والفلسطينيين (رغم أن الصفقة مع أميركا وإسرائيل جاءت على حساب الفلسطينيين على المدى الطويل).

وبخمينية سياسية، تتم تصفية القضاء تدريجيا، وتنتزع من دفاتر مؤسسات العدالة صفحات القانون الروماني العالمي الذي سار عليه قضاء الدولة الحديثة منذ تأسيس محمد علي، وتتم أخونجنة المؤسسات، ونظام التعليم، وتقييد الصحافة.

وبعد نجاح بروفة وضع الرئيس فوق السلطات، يطبخ دستور مبهم يضع مجلس إرشاد أعلى فوق الدستور والسلطات التشريعية والقضائية «كفلتر» لضمان عدم ترشيح أي معارض للبرلمان، أو أي منصب بالانتخاب. ولذا، يضمن «الإخوان» إرساء جمهورية المرشد لألف عام، (كنداء هتلر ببقاء الرايخ الثالث ألف عام). التاريخ علمنا أن الديكتاتوريات الشمولية تستهدف الأقليات، ومن يخالفهم العقيدة أو الآيديولوجية.

استيقظ وعي الشارع المصري لما حذرنا منه لسنوات؛ فمنذ تأسيس الجماعة عام 1928 لم تشمل أدبياتها أبدا برامج الحريات العامة وحقوق الإنسان وبرامج رفع مستوى المعيشة والإصلاح. ركزت الأدبيات على انفرادهم بـ«حماية الإسلام» وادعوا حملهم توكيلا سماويا بتكفير من لم يسر وراءهم. وسواء في البرلمان السابق أو في الحكم، لم يطرحوا إلا تقنين ختان البنات، وتحجيب النساء، وتزويج القاصرات، وكل ما لم يخطر ببال الثوار أو يهم الناخب المصري البسيط.

استيقاظ الوعي الشعبي في مظاهرات هاجمت مقار «الإخوان» له وجهان؛ حركة الشارع المصري تقليديا سلمية، لكن كانت للجماعة ميليشيات مسلحة، وجهاز سري (فجر القنابل في دور السينما واغتال القضاة وحرق القاهرة 1952).

علمنا التاريخ أن الأنظمة الشمولية، بعد تصفية ميليشياتها للأقليات والخصوم، تبحث عن عدو خارجي لتبرير تسلطها، فتكون الحرب المدمرة إقليميا.

ولذا، فقلق غير المصريين من كتاب «الشرق الأوسط» يفوق قلق زملائهم المصريين على مستقبل المحروسة؛ فأكبر الحرائق يبدأ بعود ثقاب. «هي دي بقى علبة الكبريت؟»، تساءل الرئيس السابق مبارك عند زيارته الأولى لمقر «الجزيرة» القطرية، متعجبا من ضآلة حجمها (مع تأثيرها) مقارنة بضخامة الاستديوهات التي خبرها في مصر.