الدستور الإخواني والانقسام المصري

TT

قام الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين وبجدارة بدور الوسيط الذي حمى إسرائيل من صواريخ حركة حماس، وكيفما قلبت تسمية ما فعله فإنه صنع نفس ما كان يصنعه الرئيس السابق حسني مبارك بالتمام والكمال، ولكنه أصبح بطلا بينما مبارك كان يعتبر عميلا، وكان مرسي قد أقدم من قبل على ما لم يستطع مبارك فعله وذلك بهدمه لكثير من الأنفاق بين قطاع غزة وسيناء.

الرئيس مرسي أطلق إعلانا دستوريا يستحوذ به على كل السلطات في الدولة، فبعدما كانت السلطة التنفيذية والتشريعية بيده في غياب البرلمان جاء هذا الإعلان ليحصّن نفسه وقراراته من السلطة القضائية ويتدخل في شؤونها بإقالة النائب العام وتعيين نائب عام جديد. وتحصين قراراته ضد أي مساءلة من أي جهة، يجعله حاكما بأمره مطلق الصلاحيات لا يشابهه إلا أعتى الأنظمة ديكتاتورية في العالم.

عبر العامين الماضيين كان يتم طرح مثل هذه الأحداث على أنها ستحدث في المستقبل القريب، وكان البعض يعتبر طرحها حينذاك مجرد تهويشات وتخويفات يغلفها العداء الأعمى لجماعة الإخوان المسلمين، ثم وحين تجلّت اليوم وقائع وأحداث وقرارات ومواقف معلنة أصبحت تطرح على أنها أمر واقع يجب الرضوخ له.

في مشهد متقلب يمكن رصد بعض التوجّهات والآراء ووضعها تحت المجهر لفرزها ومناقشتها ومساءلتها، فمثلا حدث خلط رهيب بين مفاهيم ومعاني الفوز والنصر في الحروب، فقد أصبح قتل وإصابة المئات من الفلسطينيين في مقابل تخويف أفراد من الإسرائيليين يعتبر فوزا، وصار تعهّد حماس بعدم إطلاق حجر على إسرائيل برعاية إخوانية كاملة يقودها الرئيس مرسي تجاه من سماه بصديقه وعزيزه العظيم نصرا مؤزرا وإلهيا، لا يشكك فيه إلا عدو للدين محارب لله والرسول.

إنّها مفارقة توضح قدرة الآيديولوجيا على سلب العقول، وأنها بمغالطات ساذجة وسخيفة تستطيع إقناع فئام من أتباعها بصوابية موقفها، وتنطلق ماكينة الطغام من الأتباع في التشكيك بعد ذاك في كل ناقد بصير وراصد مستقل.

منذ الخامس والعشرين من يناير لم يشهد ميدان التحرير اكتظاظا كما شهده يوم الثلاثاء الماضي وأمس الجمعة، باعتبار أنّه حشد خالٍ من جماعات الإسلام السياسي، وكل ذلك احتجاجا على إعلان الرئيس الدستوري المذكور في صدر المقال، ولكنّ الرئيس لم يكتف بهذا فحسب، بل إنّه سرّع من وتيرة عمل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، والتي عقدت يوم الخميس الماضي جلسة ماراثونية امتدت لما يقارب الأربع وعشرين ساعة وكأنّها في سباق مع الزمن، وكان ظاهرا أنّ رئيس اللجنة حسام الغرياني يريد تسليم الدستور بأسرع وقت للرئيس، وما ذلك إلا لمنح الرئيس فرصة لتعجيل موعد الاستفتاء على الدستور والانتهاء من هذا الفصل المزعج من مقاومة القوى المدنية والوطنية بمصر لتديين الدولة وأخونتها، وكذلك تخوفا من أي حكم قد يصدره القضاء تجاه شرعية اللجنة التأسيسية نفسها.

حين يمرر الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من السلفيين المتأخونين وضع دستور صنعوه على أعينهم في ظل انسحاب احتجاجي أعلنته الكنيسة القبطية والأحزاب السياسية والقوى المدنية والتيارات الشبابية، فقد ضمنوا الاستحواذ لا على واقع مصر وصراعاتها اليوم بل واختطاف مستقبلها لأمد غير معلوم.

خليجيا، ثمة أمران جديران بالانتباه، الأوّل: موقف بعض وسائل الإعلام الإخبارية وعلى رأسها قناة «الجزيرة» القطرية التي وقعت في حيص بيص تجاه قرارات إخوانية صرفة لا تلقى شعبية لدى المصريين، ومحاولاتها التغافل عن الحدث، بل سعى بعض مذيعيها كالإخواني أحمد منصور لتحريض رئيس الوزراء المصري هشام قنديل على المتظاهرين وتسميتهم بـ«البلطجية والمسجلين خطر» وانتقاده الحكومة لتساهلها معهم. والثاني: يتعلق برد فعل رموز وكوادر الإخوان المسلمين في دول الخليج، فقد كان كثير من هؤلاء يرفعون ومنذ بدء الاحتجاجات العربية شعارات مدنية حديثة كالدستور والحرية والديمقراطية والفصل بين السلطات واستقلال القضاء ونحوها، ولكنّهم حين اعتدى الرئيس الإخواني بمصر على الدستور واستحوذ على كل السلطات واستولى على سلطات القضاء أسقط في أيديهم وأصابتهم ربكة لم ينقذ بعضهم منها إلا العودة الصريحة للشعارات والمفاهيم الدينية المحضة التي لا علاقة لها بمدنية ولا حداثة، كالشريعة والحاكمية ونحوها، وبعضهم ممن حاول اللعب على الحبلين ظهر بمظهر مخجل وموقف مزرٍ أبان عن حجم التناقض الذي وقعوا فيه.

لئن كان الإخوان المسلمون محترفين في المعارضة السياسية بما تحتاجه من مزايدات وشعارات فإنّ ممارسات جماعتهم الأم بمصر بعد استحواذها على السلطة هناك تشير إلى أنّ الاستعجال وقلة الخبرة هما العلامتان الأبرز لممارساتهم وقيادتهم السياسية.

ثمة حملة يمكن وصفها بالجاهلة والخطيرة في الآن ذاته، وهي حملة تسعى لنشر التماهي بين جماعة الإخوان المسلمين والإسلام، بين حكومة منتخبة وشريعة الله، بين رئيس دولة والعصمة، وهي بقدر ما هي جاهلة على المستوى العلمي إلا أنّها خطيرة على المستوى الشعبي حين يتمّ ترويجها للعوام بطرق غير مباشرة لا تؤدي إلا إلى ذات النتيجة.

سيثور جدل مستحق في الفترة المقبلة حول الدستور الذي أقره الإخوان المسلمون وأتباعهم في اللجنة التأسيسية، وهو استمرار للجدل حول الإعلان الدستوري المرسوي الذي صدر قبل أيام، وهو جدل يختزل صراعا عميقا في مصر بين مدنية الدولة ودينيتها، بين مصر لكل المصريين ومصر للإخوان المسلمين.

لدى جماعة الإخوان المسلمين مشكلة مزمنة مع القضاء والمؤسسات القضائية بمصر فهي سلطة لا يستطيعون الوصول إليها عبر التحشيد والتجميع والانتخاب والرشى ونحوها من الوسائل والسبل التي يتقنونها حق الإتقان، ومع أهمية دورها المحوري في بنية وهوية الدولة بمصر، ومع وعيها بهذا الدور فقد أصبحت بشكل طبيعي عدوا مباشرا لجماعة الإخوان وسدا صلدا أمام طموحات الجماعة التوسعية والاستحواذية.

إنّ ما يجري بمصر هذه الأيام محوري وحاسم، وهو يعلّق أجراس الخطر ويدقّ نواقيسه، تلك التي كانت معلقة منذ سنتين ولكن القوى المدنية بمصر كانت مشغولة بمخاطر الماضي المتمثلة فيما يعرف بـ«الفلول» عن الخطر الداهم المتمثل في «الإسلام السياسي»، فجماعات الإسلام السياسي أوضحت بكل جلاء أنها ليست كما كان يصوّرها الحلم الخادع والأكذوبة البلهاء من أنّها «تيار كغيره يذهب به الصندوق الذي جاء به»، إنها بالعكس جماعة وتيار جاء ليبقى ويطيل البقاء.