المصريون يرفضون حكم جماعات الإسلام السياسي

TT

عندما تقرأ هذه الكلمات تكون الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور قد انتهت من كتابته، وعلى الأرجح سيكون رئيس الجمهورية قد وافق عليه منذ دقائق، ثم عرضه على الشعب المصري للاستفتاء العام، وبذلك يتخلص النظام - كما يتصور ويأمل - بسرعة من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، والمسمى بالتعديلات الدستورية التي أعطى نفسه فيها كل الصلاحيات المعروفة في عالم السياسة وغير المعروفة، ولكن الاستفتاء نفسه لن يحل المشكلة، فربما يقول الشعب «لا» كبيرة، وهو الأمر الذي يمكن وصفه بأنه في علم الغيب. ربما يقول الشعب «نعم»، وربما لأول مرة في تاريخ الاستفتاءات يقول «لا»، وهو ما أتوقعه في هذا المناخ السائد الذي تسوده انفعالات الرفض بوجه عام.

المشهد في مصر الآن ليس من صنع الوعي، ولذلك يستحيل فهمه على ضوء قواعد العقل والمنطق، إنها حالة غضب قوية وعامة تنتظم تقريبا المصريين جميعا، وفي حالات الغضب العام نجد أنفسنا مباشرة وبغير حواجز في مواجهة اللاوعي الجمعي، إنه ذلك المخزن القديم المهجور داخل العقل الذي يخزن البشر فيه وبطريقة لا واعية كل أحداث تواريخهم، بكل ما فيها من تجارب وآمال وإحباطات. إنه شبيه بدفتر الأحوال الموجود في قسم الشرطة أو في مستشفى عام. ولذلك فهو أكثر صدقا من الوعي الذي يمكن تزييفه أو خداعه. وبما أنه دفتر أحوال، وبما أن تخصص الكتاب الأساسي هو فهم الأحوال، أو على الأقل محاولة ذلك، فاسمح لي أن أبلغك بما فهمته من قراءة المشهد في مصر الآن.

المصريون لا يعترضون فقط على التعديلات الدستورية التي استولى بها رئيس الدولة على كل الصلاحيات السياسية والإدارية المخولة للسلطات الثلاث، والتي حصنها بحصون لا تتمتع بها أصلا هذه السلطات. بل هم انتفضوا بكل ما لديهم من قوة وعزم ليرفضوا حكم جماعات الإسلام السياسي بعد أن تأكد لديهم ما كانوا يتجاهلونه من قبل، وهو أن هذا النوع من الحكم عازم على تغيير حياتهم إلى الأسوأ، وأنه حكم لا يحتكم لأصول الحكم كما يعرفها العصر الحديث، بل هو حكم أسطوري عاجز عن تبني حقائق العصر؛ لذلك يهرب منها إلى حكاية الأساطير التي لا تطعم جائعا أو تستر عاريا. كانت الطبقة الوسطى بالتحديد هي أول من شعر بهذا التهديد، لذلك رأينا في الميدان، ميدان التحرير، وجوها من المستورين لم نرها من قبل. هؤلاء خرجوا إلى الميدان بعد أن تأكدوا أن ركوب الأساطير سيذهب بهم إلى إيران، أو السودان على أفضل تقدير. وأنهم على وشك أن يفقدوا كل مكاسبهم المدنية التي تحتمها الحضارة، والتي حققوها منذ عصر محمد علي باشا، لقد اكتشفوا أن حكم جماعات الإسلام السياسي يهددهم بتغيير أسلوب حياتهم الذي ألفوه.

ولكن التعديلات الدستورية لم تكن هي القنبلة التي فجرت الغضب في نفوس المصريين، بل هي ما نسميه «المفجر»، وهو عادة يكون صغيرا للغاية بالنسبة لحجم القنبلة. كما أن حكاية الدستور نفسه والإسراع أو الإبطاء في الانتهاء من كتابته، أو مدى مطابقة مواده لحقوق الإنسان والمجتمع، فكل ذلك لا أهمية له بالنسبة للاوعي جمعي يتفجر بالغضب، ولو أن وزارات العدل في العالم المتقدم كله أرسلت مندوبا عنها لصنع دستور تحول مواده البشر إلى ملائكة، والمجتمع المصري إلى جنة صغيرة على الأرض، لما أفلح ذلك كله في إقناع المصريين بالرضا به. هم سيرفضون الدستور بكل عدله وظلمه، بكل جماله وقبحه، لأن هذا الرفض هو وسيلتهم للتعبير عن موقفهم، وهو أنهم يرفضون بكل ما لديهم من قوة وعزم أن تحكمهم تيارات الإسلام السياسي. وفي اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات تكون العجلة قد دارت في مصر لمواجهة هذا الدستور باحتجاجات قوية عامة شاملة تطلب فيها من الناس أن يقولوا: «لأ»..

هناك قرارات لجماعات الكتاب والمفكرين بأن تمتنع الصحافة الخاصة عن الصدور يوم الثلاثاء القادم احتجاجا على الدستور، ويوم الأربعاء هناك قرار آخر أصدره المسؤولون عن المحطات التلفزيونية الخاصة بتسويد الشاشات في ذلك اليوم. هكذا تكون حملة «قل لأ للدستور» قد بدأت حتى قبل أن يوقع رئيس الدولة على الدستور، بل قبل أن تصدره الهيئة التأسيسية. إذا شاء لك الحظ أن تكون في طائرة في طريقها إلى مطار القاهرة الدولي، وبعد دخول المجال الجوي مباشرة ستستمع لصيحة هائلة تشق طبقات الجو العليا، الصيحة تقول «قل لأ للدستور»، وليس بعيدا أن تستمع لصوت الكابتن يقول: قائد الطائرة فلان الفلاني يرحب بكم ويطلب منكم أن تقولوا «لأ» للدستور.. نحن نشكركم للطيران على شركتنا، ونشكركم للوقوف مع المصريين.. قل لأ للدستور..

وإذا كنت قادما في سفينة فربما تسمع نفس الصيحة محمولة على الأمواج قبل ميناء الإسكندرية بأميال.

كل الجماعات المحتجة في مصر، وهي الأغلبية ستتفرغ لهذه الحملة، ستكثر الإذاعات وبرامج المنوعات من إذاعة كل الأغاني التي تحتوي على كلمة لأ، وأشهرها بالطبع، «لأ يا حلو لأ.. لأ ما لكش حق».

ولحل مشكلة الأمية، أتوقع أن كل أبناء القرى والنجوع والكفور من الشباب المحتج الغاضب سيعود إلى مسقط رأسه لكي يطلب من الناس أن تقول لأ. ولن تكون مهمته صعبة؛ فالناس جاهزة تماما لاتخاذ هذا الموقف بعد شهور طويلة من زيادة مساحات الفقر والمرض، وانعدام القدرة على رؤية الضوء في نهاية النفق، لدرجة الإحساس العام بأننا قد دخلنا نفقا لا نهاية له ولا خروج منه.

لقد دخلنا في مصر مرحلة الغلط والزلط التي تعرفها الناس جميعا، وهي تلك القاعدة التي تقول «حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط»، وعلى ضوء هذه القاعدة أقول: لن يبلع المصريون حتى الملبن والبسبوسة لجماعة الإخوان المسلمين الحاكمة بعد أن تحول إلى حالة عداء لهم فرضها الغضب، وبالتالي سيكون سعيدا بكل أغلاطهم السياسية يغذي بها مراحل غضبه.

وللإنصاف، كل الإشارات التي أخافت المصريين لم تكن كلها من صنع «الإخوان»، ولكن تم تحميلها عليهم. عدد كبير جدا من نجوم المتشددين سكنوا حصونا في بعض الفضائيات والمنابر وأخذوا يتهمون كل خصومهم - يعني كل الآخرين - بأنهم ضد الشريعة وضد الإسلام، وبأنهم كفار ملاحدة، ثم حوادث مخجلة احتلت الصفحات الأولى عن سلوك بعضهم. طبعا لا داعي للتفاصيل لأن حضرتك تعرفها جميعا، ربنا أمر بالستر. كل هذه الحوادث التي تدفع على الكراهية والاحتقار، تم تحميلها على ملف جماعة الإخوان، لسبب بسيط هو أن عقول البشر تميل للتعميم، وتبحث دائما عند كل واقعة، عن مسؤول أكثر قوة وشهرة تحمله مسؤولية ما حدث.. وقى الله مصر شر مقاديره.