الدستور أولا!

TT

الربيع العربي يمر بمراحل «مختلفة» هذه الأيام، وبدأت الأعراض الخاصة بكل بلد تسيطر على الأحداث وتأخذ بك وتخطف الأضواء من الشعارات البراقة التي انطلقت بها الموجات الثورية المختلفة. فتونس تعاني مر المعاناة من خطاب ديني متشدد متطرف مكفر منفر لا يقبل إلا صوته ولا يقبل إلا بتغيير الوضع «عمليا» بيده إذا لم يلق قبوله وقناعته.

وهذا التيار الموتور ينضم إلى حال مضطرب موجود أصلا بين الإسلاميين والليبراليين، ولكن هذين الفريقين يدركان تماما أن هذا الفريق يشكل «خطرا كبيرا» على سوية الوضع الاجتماعي والأمان عموما بالنسبة لتونس التي لم تتعود أو تعهد هذا التعصب والتنطع الخطير من قبل. ويبدو أن هذه المسألة ستكون بمثابة «الاختبار الأعنف» للحكم في تونس.

أما في مصر فالنظام الحاكم يبدو متورطا وبشدة بسبب القرارات الرئاسية الأخيرة التي صدرت، وكونها كانت عنوانا للاستبداد والانفراد بالسلطة في دولة عرفت مؤسسات للحكم ذات ملامح واضحة (وإن كان بها خلل في الأداء)، ولا يعتقد أن هذا القرار يستهدف عزل النائب العام فقط كما أعلن عنه، ولكنه يخلق سابقة مهمة يمكن من خلال ذلك الأمر عزل شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية وكافة أعضاء المحكمة الدستورية، وهذا يعني سلطة مطلقة لرئيس البلاد لم تعرفها مصر من قبل، على الأقل شكليا.

وفي ليبيا هناك تخبط أمني واضح وصراع على الصلاحيات بين قطاعات الحكم المختلفة أديا إلى ثقة مزعزعة بين أطراف الحكم بحاجة لمعالجة فورية وحاسمة.

وأما في اليمن فالبرلمان لا يزال «غائبا» والحكومة غير «معتنية» بالصلاحيات الممنوحة لها، وتبقى المعارضة «تستغل» هذا الوضع الذي يؤدي إلى دولة مشلولة الأطراف، وبالتالي بلا فعالية كافية لإدارة شؤون البلاد.

سوريا لا يزال النظام المسعور فيها يواصل حصد أرواح شعبه بلا رحمة ولا هوادة، وهي حالة توتر «وداعية» تصيب كل من شارف على الرحيل ليؤدي «مهمته» كاملة بتخريب البلاد «كاملة» وانشغالها بإعادة بناء نفسها لعشرات السنين المقبلة منهكا ميزانيتها بشكل استثنائي ليحمل الأجيال القادمة أعباء ديون متعاظمة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في ذهن الأنظمة التي ستجيء بعد نظام الأسد المجرم أن تحرر أراضي الجولان المحتلة، وهذا طبعا «عز الطلب» تماما، وبذلك يؤدي نظام الأسد مهمته الخبيثة المسماة «بالمقاومة» حتى آخر لحظة.

وفي الكويت هناك مأزق في نظام الانتخابات بين الحكومة والمعارضة؛ فالمعارضة لا تعترف بنظام صوت واحد لكل ناخب وتعتبره ظلما لها مع أن هذا النظام الانتخابي هو الأكثر عدالة ومنطقية حول العالم.

والأردن هو ايضا يعاني من رفض بعض القطاعات الشعبية لنظام الانتخابات الجديد لأسباب مختلفة وإن كان كما يقول الكثير إن قرارات الرئيس مرسي الأخيرة وجهت ضربة عنيفة للإخوان المسلمين في الكويت وفي الأردن أدت إلى تقليص الحماس لهم في التأييد الذي كان موجودا لمصلحتهم.

كل هذه المشكلات توضح مسألة حيوية وهي أن «الدستور» الغائب عن ثقافة الشعوب العربية أدى إلى هذه الفوضى السياسية وسمح بالتجاوزات والخلط الشديد في الحقوق والواجبات.

أكاد أجزم أن الحقبة القادمة هي حقبة القانونيين ليصوغوا دساتير وأنظمة حكم تضمن الحقوق بشكل صريح وتوضح الأدوار المنوطة للدولة وللمواطن فتزيل اللبس والجدل ولا تسمح بالتالي بالتسلط والاستبداد وانتشار الفساد على الأقل من الجانب النظري البحت.

إننا الآن أمام فترة «صناعة الحقوق» وهي التي ستحسم الكثير من الجدل ومن التناحر الموجود بين أطراف كثيرة وهي الجائزة الكبرى للديمقراطية، فانتخابات بلا دساتير وبلا أنظمة حكم تبقى ناقصة وبلا هدف نهائي، وبالتالي الربيع العربي مستمر حتى تتحقق هذه المسألة البالغة الأهمية، والأيام المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت.

[email protected]