رغم أزمات الاقتصاد العالمي هنالك نقاط ضوء

TT

منذ بضعة أسابيع، كان يبدو أنه لا توجد هناك سوى الأخبار السيئة، ولكن هناك أشياء جيدة تحدث أيضا في الوقت نفسه. أكد تقرير «الآفاق العالمية والتغيرات السياسية» - الذي أعده صندوق النقد الدولي ليتم مناقشته في اجتماع مجموعة العشرين الاقتصادية على مستوى وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في دول المجموعة، وهو الاجتماع الذي عقد في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي يومي 4 و5 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2012 - أن توقعات النمو لا تزال ضعيفة مع وجود مخاطر سلبية ملموسة.

يقول التقرير: «ثمة توقعات متواضعة حول زيادة النشاط العالمي، فعلى الرغم من تنفيذ السياسات المعنية بصورة حاسمة في منطقة اليورو وتجنب الوقوع في أخطاء مالية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن المخاطر السلبية ما زالت مرتفعة. وقام البنك المركزي الأوروبي باتخاذ إجراءات قوية للغاية، إلا أن تفاقم الأزمة في منطقة اليورو لا يزال يشكل تهديدا. ثمة مخاطر كبيرة أيضا تنشأ في الولايات المتحدة الأميركية جراء (الأزمة المالية) والجدل الوشيك حول رفع سقف الديون وعدم وجود خارطة طريق اقتصادية متفق عليها. وربما تأتي توقعات النمو مخيبة للآمال في الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حد سواء، وهو ما يعود إلى تبعات الأزمة المالية في الأولى، وانتهاء الطفرات الائتمانية في الأخيرة. ولكن من المحتمل أن تكون معدلات النمو قوية أيضا إذا ما تصرف واضعو السياسات بصورة سريعة نحو المزيد من تعزيز السياسات».

وبصورة منفصلة، جاءت البيانات الصادرة عن عدد من الاقتصادات الكبرى مخيبة للآمال، حيث تباطأت معدلات النمو الاقتصادي في الهند في الربع الثالث من العام الجاري، بينما شهدت كندا والبرازيل تراجعا حادا ومفاجئا، في الوقت الذي ارتفعت فيه معدلات البطالة في منطقة اليورو إلى رقم قياسي جديد ببلوغها 11.7 في المائة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وذلك جراء انخفاض مبيعات التجزئة في ألمانيا بصورة غير متوقعة وتراجع معدلات إنفاق المستهلكين في فرنسا.

وفي الولايات المتحدة الأميركية، أصاب الركود دخول المواطنين الأميركيين في شهر أكتوبر الماضي، بينما انخفضت معدلات الإنفاق بصورة بسيطة، وهو ما يعود بصورة أساسية للأضرار الناجمة عن إعصار «ساندي». ارتفعت مستويات دخل المواطنين الأميركيين بأقل من 0.1 في المائة، مقارنة بالشهر السابق، بينما انخفضت معدلات الإنفاق بنحول 0.2 في المائة، وفقا للبيانات الصادرة عن وزارة التجارة الأميركية.

وأشارت البيانات الحديثة الأخرى الصادرة من الولايات المتحدة إلى انتعاشة قوية يشهدها الاقتصاد الأكبر في العالم، بما في ذلك صعود مفاجئ لمعدلات النمو في الربع الثالث من العام الجاري لتتراوح بين 2 إلى 2.7 في المائة. وعلى النقيض تماما، جاء أداء الاقتصاد الكندي أسوأ بكثير خلال فصل الصيف الماضي، حيث شهدت البلاد انخفاضا مفاجئا في الصادرات وضعفا في نشاط قطاع البترول والغاز الطبيعي، مما أدى إلى انخفاض معدلات النمو السنوية في الربع الثالث من العام الجاري إلى 0.6 في المائة، وهو ما يقل عن متوسط توقعات النمو للخبراء الاقتصاديين والتي بلغت 0.9 في المائة. وكان هذا هو نفس معدل النمو الذي حققته البرازيل خلال الفترة نفسها، والذي جاء بمثابة الصدمة الكبرى للبلد الذي وصل معدل النمو فيه إلى 7.5 في المائة في عام 2010، حيث كانت الأسواق البرازيلية تتوقع تحقيق ضعف هذا المعدل تقريبا. كما تواجه الحكومة الهندية أزمة مماثلة، حيث بلغ معدل النمو في الهند 5.3 في المائة في الربع الثالث من العام الجاري، بما يتماشى مع توقعات الخبراء الاقتصاديين، ولكنه على الرغم من ذلك جاء مخيبا للآمال في البلد الذي يطمح إلى بلوغ معدلات النمو التي تحققها الصين (8 في المائة). ومثل البرازيل، شهدت الهند فترة من الأداء الاقتصادي الضعيف على مدار الأشهر الـ18 الماضية، محققة معدل نمو يقل عن 5.5 في المائة خلال العام الحالي.

وأدت هذه البيانات إلى تحفيز الأسواق في الهند، حيث ارتفعت أسعار الأسهم بشدة في بورصة مومباي على أمل أن يعطي التباطؤ الاقتصادي الحكومة قوة الدفع السياسية التي تحتاج إليها للمضي قدما في تبني الإصلاحات الاقتصادية، بما في ذلك إحدى الخطط التي طال انتظارها لفتح قطاع التجزئة في البلاد أمام المنافسة والاستثمارات العالمية.

ومن بين جميع الاقتصادات الكبرى، يبدو أن الاقتصاد الصيني كان هو الوحيد الذي تمكن من التعافي من التباطؤ المقلق الذي شهده قبل الصيف الماضي، حيث تم الإعلان عن سلسلة من البيانات الإيجابية قبيل عملية تغيير القيادة السياسية في البلد، التي تحدث كل عشر سنوات، في وقت سابق من الشهر الماضي. وعلى النقيض من كل هذه الكآبة، أعلن «مكتب الإحصاءات الوطنية» في بريطانيا الأسبوع الماضي أن اقتصاد المملكة المتحدة شهد نموا بمعدل 1 في المائة خلال الربع الثالث من العام الجاري، وهو ما يعتبر معدلا جيدا إلى حد ما مقارنة بالمعدلات التي حققتها معظم الاقتصادات الأوروبية وسائر بلدان العالم تقريبا. وعلى صعيد آخر، فعلى الرغم من أن لندن ما زالت تتمتع حتى الآن بموقع الريادة كمركز للخدمات المالية العالمية، أكد «مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال» في لندن أن عدد وظائف الخدمات المالية في هونغ كونغ، والتي كانت تمثل أقل من نصف نظيرتها في لندن في عام 2005، ربما يتجاوز نظيرتها في لندن بحلول عام 2015، كي تصبح هونغ كونغ المركز المالي الرئيسي في العالم. ويؤكد دوغلاس ماك ويليامز، الرئيس التنفيذي لـ«مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال»، أن السبب الرئيسي وراء ذلك الأمر يكمن في الدفعة التي ستحصل عليها هونغ كونغ عقب تدويل العملة الصينية، الرنمينبي، فضلا عن اللوائح التنظيمية المرهقة وارتفاع الضرائب في المملكة المتحدة.

وعلى الرغم من ذلك، وكما أكدت في أحد المقالات التي كتبتها في شهر أبريل (نيسان) من العام الجاري، بدأ جورج أوزبورن، وزير المالية البريطاني، في حملة تهدف لتطوير مدينة لندن لتصبح مركزا لتجارة الرنمينبي في الخارج، بينما قام مصرف «إتش إس بي سي» في لندن بطرح أول رنمينبي خارج الصين وهونغ كونغ. تعتبر كلتا المبادرتين إشارة واضحة على عزم لندن التعاون والمنافسة في مجال تجارة الرنمينبي التي تشهد نموا سريعا على الصعيد الدولي. أدت الجهود التي تبذلها بلدية مدينة لندن للاستمرار في تطوير المدينة لتصبح مركزا رئيسيا لتجارة الرنمينبي في الخارج إلى توفير منصة شاملة لإطلاق هذه المبادرة.

تعتبر مدينة لندن السوق الكبرى لتجارة النقد الأجنبي في العالم، حيث تستحوذ وحدها على 37 في المائة من هذه التجارة، وهو ما يجعلها تتمتع بوضع مثالي للانضمام إلى هونغ كونغ كمركز رئيسي لتجارة العملة الصينية في العالم. يدعم اتساع شركات الخدمات المالية والمهنية التي يقع مقرها في لندن هذا الطموح، وهو ما يعني أن المدينة تمتلك بالفعل الخبرات اللازمة لتطوير السوق.

وعلى الرغم من وجود الكثير من الإحصاءات المقلقة بشأن آفاق النمو العالمي، ما زالت لندن قادرة على اجتذاب كميات كبيرة من الاستثمارات العالمية من الشرق الأوسط، والآن من الصين أيضا. توقعت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، وهي المنظمة الغربية الرائدة في مجال الأبحاث الاقتصادية، انكماش الاقتصاد البريطاني بأقل مما كان متوقعا في العام الجاري، ولكنها حذرت أيضا من أن التعافي سيكون بطيئا وغير مؤكد على خلفية تفاقم الأوضاع العالمية. توقعت المنظمة أيضا نمو الاقتصاد البريطاني بوتيرة أسرع من نظيريه الفرنسي والألماني.

وينتظر الجميع بشغف كبير «بيان الخريف لعام 2012» والذي سيلقيه وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن يوم الأربعاء. ويتضمن البيان آخر المستجدات الخاصة بخطط الحكومة الاقتصادية المبنية على أحدث توقعات «مكتب مسؤولية الموازنة» البريطاني. ومن المتوقع أن يكشف بيان الخريف عن نتائج المراجعة التي استغرقت عاما كاملا لنموذج «مبادرة التمويل الخاص» الناجح - وهو النظير البريطاني لنظام الشراكة بين القطاعين العام والخاص. أتوقع أيضا أن يتضمن هذا البيان الخطط الرامية لتوفير مدخرات لتشغيل مشاريع مبادرة التمويل الخاص، وسوف أعلق على هذا الأمر الأسبوع المقبل.

وسوف أقوم، بالاشتراك مع جيفري سبنس، الرئيس التنفيذي لهيئة البنية التحتية في المملكة المتحدة، بإلقاء البيان الرئيسي في «مؤتمر البنية التحتية في لندن» والذي سيعقد يوم الخميس من الأسبوع المقبل، أي بعد ساعات قليلة من إلقاء أوزبورن لبيان الخريف. وسوف يعلن أوزبورن أيضا عن إجراء بعض التغييرات على نموذج «مبادرة التمويل الخاص» عقب المراجعة التي استغرقت عاما كاملا. وينصب تركيز هيئة البنية التحتية في المملكة المتحدة على أولويات البنية التحتية في بريطانيا على المدى الطويل ومواجهة التحدي المتمثل في تسهيل مهمة استثمارات القطاع الخاص على المدى الطويل. سوف أقوم بتغطية هذه الأمور في مقالي الأسبوع المقبل.

وفي النهاية أؤكد على أنه دائما ما تكون هناك أخبار سارة بين الأخبار السيئة.

* أستاذ زائر بجامعة لندن متروبوليتان للأعمال، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة «ألترا كابيتال».