هل يتكاتف العالم لحل مشاكله؟

TT

عندما سئلت قبل عدة سنوات عما تعلمته من الأزمة المالية، أجبت «إنه اقتصاد عالمي، غبي». حسنا ما قلته فعليا هو أنها علمتني أن «المشكلات العالمية بحاجة إلى حلول عالمية».

سأتوغل الآن بشكل أكبر، فخلال 13 عاما في الحكومة تعلمت أن القضية الدولية المسبقة ما إذا كان بمقدورنا تطوير مستوى من التعاون الدولي الذي يتوافق مع البعد الدولي لمشكلاتنا.

لسنا بحاجة إلى دليل قوي في أن عالمنا أكثر ترابطا مما كان عليه من قبل. وخلال عملي رئيسا للوزراء عام 2008، شهدت كيف أن لأصداء انهيار النظام المصرفي في أي مكان تأثيرا على الاستقرار في أي مكان. شعرت أن القادة، الذين كانوا يتحدثون في السابق بشكل متقطع، على اتصال دائم. وكرئيس لمجموعة العشرين في ذروة الأزمة، وجدت نفسي أستخدم الهواتف على مدار 24 ساعة، وأتحرك عبر المناطق الزمنية من آسيا إلى أميركا. منذ ذلك الحين، رأينا كيف أرسلت الكارثة النووية في اليابان موجات صادمة في كل أرض، وكيف هزت الصعوبات الاقتصادية في اليونان الثقة عبر العالم، وكيف يمكن للسياسات الحمائية في عدة دول أن تعطل التجارة العالمية. لدينا أيضا ثقة في أن التعاون الدولي بشأن القضايا الدولية لا يسير بالشكل المطلوب. كان ينبغي لعام 2009 أن يجلب فترة من التعاون المتطور. وعوضا عن ذلك، حقق ذلك التعاون إنجازا كبيرا لكنه تراجع. ولكن لا يزال التنسيق العالمي يعتبر لدى الكثير من الدول خيارا إضافيا، وعرضا جانبيا مقارنة بقضايا داخلية.

بالنسبة لتجربتي الشخصية يمكنني أن أرى أن هناك تغيرات يمكنني القيام بها، وبمقدورنا تبني إصلاحات مؤسسية، وسياسات محددة يمكننا تبنيها لتطوير التعاون ونوجهه نحو بناء عالم أكثر رفاهية وقوة.

دعوني أركز على الاقتصادات الخمس الكبرى في العالم والتحديات الاجتماعية في وقتنا - الاقتصادات العالمية في طبيعتها، وجميع الإجراءات المصاحبة تتطلب تنسيقا، وجميع القضايا التي طالب المجتمع الدولي بالتحرك من أجلها من استقرار مالي وتغير المناخ والنمو العالمي والتجارة الحرة وأهداف التنمية العالمية فشل في التحرك بفاعلية لحلها بسبب غياب التعاون والتكاتف.

مثالا على ذلك تحول التنسيق المالي العالمي إلى مثار للخلاف نتيجة الأزمة المالية العالمية - التي كلفت العالم 4 تريليونات دولار من الناتج المفقود و28 مليون وظيفة إضافة إلى تضخم الدين والعجز في الميزانية (كثير من هذه التكلفة التي تحملتها الدول والشركات والأفراد الذين لم يتسببوا في الأزمة بشكل مباشر). وكما يقول مارك كارني، رئيس مجلس الاستقرار المالي، الذي أنشئ عام 2009 لمراقبة ووضع توصيات بشأن الأزمة المالية العالمية: «بالنظر إلى حقيقة الأزمة المالية، فليس كافيا أن نرتب منزلنا الخاص أو نعزل أنفسنا عن العالم، وإذا ما كان علينا القيام بذلك فسوف ننتهي إلى حال أسوأ. فالنظام المالي العالمي المفتوح والمرن ركن رئيسي في تحويل النظام العالمي إلى الشكل الذي يحقق الاستقرار. ولكي نحقق ذلك سيكون إصلاح القطاع المالي ضرورة». بيد أنه على الرغم من الوعود الكثيرة التي قدمت تتفق أوروبا وأميركا وسويسرا والمراكز المالية الأخرى اليوم مع ضرورة بناء أنظمة مالية صارمة ومنفصلة. العالم اليوم يواجه خطورة السباق على تمتين المعايير المالية. بيد أنه لم يتسن على الفور اتفاق بشأن الرقابة وقواعد نظام مصرفي خفي، وقواعد التوريق وكيفية إدارة صناديق سوق المال، وكيف ندير الروابط بين القطاع المصرفي المنظم وبنوك الظل. كما فشل تنسيق التحرك العالمي بشأن التغير المناخي.

ومهما كان العمل الذي تسعى الدولة إلى اتخاذه بشأن التغير المناخي فإن نتائجها السياسية تأثرت بالدول الأخرى. وعندما فشل مؤتمر كوبنهاغن في ديسمبر (كانون الأول) 2009 لم يكن ذلك بسبب فشل في التوصل إلى أي اتفاق. الحقيقة أننا تمكنا من التوصل إلى اتفاقات في أربع نقاط أساسية - خطط خفض الكربون على المستوى الوطني وعلى متطلبات الشفافية، وفي المساعدة الطارئة للدول الفقيرة لتخفيف آثار دمار المناخ، وعلى إطار عمل بعيد المدى لنقل الموارد من الأغنياء إلى الفقراء. بيد أنه لا يمكننا الموافقة على معاهدة أو حتى على إطار عمل إجمالي لا يمكننا أن نلبي احتياجاته - مثلا، سعر الكربون يضمن استثمارا دائما ضامنا في صناعات متجددة. والنتيجة هي أنه بغض النظر عن الصين (حيث اتخذ قرار في الدولة برعاية الصناعات المتجددة) كان الاستثمار في الصناعة العالمية ضعيفا. وعلى الرغم من وجود بعض التقدم في ديربان في جنوب أفريقيا، من خلال اتفاق بشأن معايير حول الشفافية، وفي كانكون في المكسيك؛ حيث وضعت معايير جديدة للمسؤولية الاجتماعية للشركات، وهو التعاقد الذي طالما وعدنا به بشأن الاستثمار في الكربون المنخفض إلا أنه تم تأجيله، ووقع ضحية للفشل الدولي في التوصل إلى اتفاق.

ولا يزال العالم غير قادر على الموافقة على خطة عمل بشأن النمو العالمي بسبب أزمة منطقة اليورو، ففي عام 2009 عندما اتفق قادة العالم على استراتيجية جريئة، أصررت أنا والآخرون على أن تدابير المساعدة لا بد من أخذها في الحسبان. وفعلا تضمنت خطة عمل مجموعة العشرين التزام أعضائها لتنسيق السياسات البنيوية والتجارية والمالية والنقدية واستخدام عملية تقييم مشتركة لصندوق النقد الدولي كوسيلة. ولكن ما كان يهدف لأن يكون ميثاق نمو عالمي سرعان ما هوى في مستنقع حروب العملة. النتيجة هي أن النمو العالمي انخفض أكثر مما كان متوقعا وأقدر أننا خسرنا ما بين 25 و50 مليون وظيفة في أنحاء العالم. ومن المبادرات العالمية التي نحتاجها، وضع خطة البنية التحتية لتعبئة المدخرات الخاصة إنتاج عملية نمو أعلى، ولكنها للأسف ولدت ميتة.

وبشأن التوصل إلى اتفاقية تجارة عالمية فإن المفاوضات بشأن جولة تجارة عالمية جديدة تحطمت، البعض يرى استحالة الموافقة على ما يمكن القيام به بشأن هذه الاتفاقية بسبب طبيعة الواردات والصادرات وسلسلة الإمداد العالمية التي تتغير بسرعة كبيرة. بيد أن كل جولة تجارية ناجحة منذ الأربعينات ينبغي عليها التعامل مع عامل يتغير سريعا. واليوم يجدد العالم التجارة بين آسيا والتي تشكل الآن نحو ثلث التجارة البينية الأوروبية، وستتجاوز التجارة الأوروبية قبل 2030. فالصين التي تحتوي على 5 في المائة من التجارة العالمية اليوم ستحظى بـ15 في المائة بحلول 2030. وسيرتفع نصيب الهند في التجارة من أقل من اثنين في المائة إلى 5 في المائة.

ونظرا لحاجتهم إلى البيع لأسواق أوروبا الناشئة، أعتقد أن التجارة الحرة هي في مصلحة أميركا وأوروبا أكثر من أي وقت مضى. بيد أننا نواجه احتمالا بأننا للمرة الأولى خلال 40 عاما من مفاوضات التجارة والضغوط الحمائية ستجعل اتفاق التجارة العالمية مستحيلا.

وبخصوص أهداف الألفية الإنمائية، ففي عام 2000 وافق كل قادة العالم الكبار والمؤسسات الدولية البارزة لتقديم حلول لها في 2015، التعليم لكل طفل وخفض ثلثي وفيات الأطفال وخفض ثلاثة أرباع وفيات الأمهات وخفض الفقر إلى النصف في كل قارة. ووعدوا بضمان المساواة بين الجنسين. وعلى الرغم من التقدم الكبير في خفض الفقر في الصين، لم تسر أي من أهداف الصحة والتعليم على مسار تلبية أهدافها. وأحد الأسباب التي جعلتني أقبل عرض الأمين العام للأمم المتحدة لكي أكون مبعوثه الخاص للتعليم العالمي هي أننا ما لم نسارع لتعقب الموارد لمواجهة هذه الأهداف من الآن وحتى نهاية عام 2015، هي خيانة جيل تطارد المقبل. مصداقية أهداف ما بعد 2015 يعتمد على مقدار ما سنقوم به خلال السنوات الثلاث المقبلة للوفاء بالأهداف الحالية.

وفي 5 مجالات محورية يعتبر تنسيق السياسات فيها أمرا أساسيا، لم يتحرك العالم إلى الأمام بقوة كافية، بل إنه في بعض الجوانب المهمة قد تحرك إلى الوراء. إذن أين الأصوات القوية ذات الاهتمام العالمي التي يمكنها أن تفعل شيئا بخصوص هذا؟ إن ما تفعله الصين يهم العالم بالتأكيد أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يقول زينغ بيجيان، وهو مستشار بارز للحكومة في بكين، إن هناك الآن «تقاربا في المصالح» عبر العالم، غير أن التحدي المباشر هو ما إذا كان من الممكن تمتين هذا التقارب العالمي من دون وجود قوة واحدة مهيمنة أو مجموعة من المصالح التي تصر على الإمساك بزمام الأمور. وبعبارة أخرى، فإن الصين تريد تنسيقا عالميا من أجل العمل، فهي لا تريد قلب النظام العالمي الحالي بل إصلاحه، وهي تريد أن تشارك أميركا وأوروبا في عملية الإصلاح دون محاولة للهيمنة.

غير أن الأحداث تجبر أوروبا على التراجع عن رغبتها القديمة في تقديم موقف مشترك من التعاون الدولي، وعلى الرغم من أن الأسواق الناشئة خارج آسيا ترغب في اعتناق التكامل الاقتصادي العالمي، على الأقل من الناحية النظرية، فإن البرازيل وجنوب أفريقيا ليستا من الدول التي تتدخل كثيرا في القضايا العالمية، والهند وروسيا — اللتان تتبعان رؤية قوية تاريخيا بالنسبة للعالم — صارتا منشغلتين بنفسيهما أكثر من اللازم. وعندما تجتمع بلدان مجموعة «البريك»، فإن النشرات الرسمية الرفيعة التي تصدرها تخفي وراءها خلافات داخلية واسعة حول كيفية المشاركة داخل المجموعة. وينطبق هذا أيضا على الولايات المتحدة، التي لا ينقسم الناس فيها حول ما إذا كان ينبغي أن تشارك أميركا في شؤون العالم بقدر ما ينقسمون حول الشروط التي ينبغي أن تنبني عليها هذه المشاركة. وفي كل البلدان، يتعين على الساسة التعامل مع النزوات القومية والحمائية التي تبرز في الأوقات الاقتصادية العصيبة. ففي دراسة صدرت مؤخرا عن الرأي العام العالمي، توصل جيفري سيلرز من «جامعة جنوب كاليفورنيا» إلى أن هناك تحولا ليس نحو تكوين إحساس أقوى بالمواطنة العالمية أو حتى الوطنية، بل نحو «ارتباط أقوى بالأرض» على المستوى المحلي.

وربما تقترب المشكلات أكثر فأكثر في طبيعتها من المشكلات العالمية، إلا أن السياسة تظل محلية. وقد شعرت بالإحباط حين علمت أنه بينما كنت أتحدث إلى الجماهير المحلية عن فوائد التعاون العالمي، كانت هناك أصوات أكثر بكثير تنادي بإعادة تعريف ماهية المشكلة العالمية — وهي تدني معدلات النمو — على أنها مشكلة وطنية — وهي ارتفاع الدين العام. وحتى عندما تكون هناك مشكلة خارجة عن سيطرة القيادة في أحد البلدان، فقد كان من الأسهل كثيرا على السياسة أن تحمل الجماهير الحكومة الوطنية المسؤولية عنها.

وربما يكون الاستنتاج المتشائم الذي نخلص إليه من هذا هو أن الحكومات لن تلجأ إلى العمل الدولي إلا عندما تكون عاجزة عن حل المشكلات المحلية بالطرق القديمة، إلا أنني أكثر تفاؤلا من ذلك بكثير، لأسباب ليس أقلها أنه كانت لدينا تجربة ناجحة مع العمل العالمي، أفلحت في تحقيق أهدافها. ولكن مع ذلك، فإن المؤسسات الدولية التي تأسست عام 1945 أصبحت الآن غير مؤهلة لمواجهة تحديات إقامة اقتصاد عالمي، فعلينا أن نجعل من صندوق النقد الدولي أداة أكثر فعالية في المراقبة العالمية، وأن نمنح مجموعة العشرين المقومات اللازمة لتنسيق السياسة الاقتصادية الدولية، وأن نضمن إشراك جميع البلدان التي لا تنتمي إلى مجموعة العشرين في المشاورات، وأن نضع جداول زمنية تفصيلية للاتفاقات المتعلقة بالقواعد المصرفية العالمية، والنمو والتجارة، والتقدم بأسرع الطرق نحو بلوغ الأهداف الإنمائية للألفية.

إن المخاطر كبيرة، وفرص نجاحنا معا تتوقف على ما نفعله، وعلى الرغم من تعثر خطواتنا الأولى نحو إقامة أول حضارة عالمية حقيقية، فإن الجائزة كبيرة. ومن دون التقليل من أهمية هوياتنا الوطنية، فنحن في طريقنا إلى إقامة أول نظام حوكمة عالمي.

* رئيس وزراء بريطانيا وزعيم حزب العمال من عام 2007 حتى عام 2010.

* خدمة «نيويورك تايمز»