التحدي والاستجابة في المسألة النفطية

TT

خلال عقد السبعينات من القرن الماضي قرأت رواية اسمها «ملف الغد» أو «Tomorrow’s File» لم أعد أذكر اسم مؤلفها، ولكن أحد محاورها الرئيسية كان أن شاه إيران، وكان لا يزال موجودا، اكتشف في عام 1999 أن النفط المصنع أغلى من الذهب من حالة كونه خاما، مما أنذر بانقلاب نوعي في توازن القوى على مستوى الكون. بالطبع لا أدري ما الذي جرى بعد ذلك، ولكن أثناء وجودي الأخير في الولايات المتحدة في نهاية الصيف ومطلع الخريف من هذا العام، وإبان حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان واضحا حالة من التفاؤل الشديد بحالة الطاقة في أميركا. فمنذ عام 1973 فإن مرشحا للرئاسة الأميركية لم يترك فرصة إلا ووعد ناخبيه بأن يحقق الاستقلال الأميركي في مجال الطاقة، وخصوصا في ما يتعلق بالاستيراد من الشرق الأوسط. كان ذلك أحيانا يصاغ ضمن أولويات الأمن القومي الأميركي الذي لا يجوز أن يعتمد على منطقة ما في العالم، أما إذا كانت هذه المنطقة هي الشرق الأوسط حيث توجد إسرائيل فإن الاعتماد يصبح خطرا على السياسة الأميركية فيجعلها مضطرة إلى اتباع سياسات ربما لا ترغب فيها نتيجة السياسة المحلية أو الضرورات الإقليمية. وباختصار، لم تكن واشنطن مرتاحة أبدا عن الأوضاع التي تولدت في السوق النفطية منذ حرب أكتوبر 1973، ومن ساعتها صار البحث عن بدائل.

وعلى مدى العقود الأربعة الماضية ظهر للولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها، أن ما ترنو إليه يدخل في إطار الإمكانية بدخول منتجين جدد إلى الساحة، وتطوير حقول قائمة على الجانب الآخر، أو تطور تكنولوجي في مصادر الطاقة الأخرى يجعل المفاعلات النووية أكثر أمانا، أو يجعل من الطاقة المتجددة أمرا ممكنا. وهكذا لثلاثة عقود تقريبا، أو حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، تذبذبت أسعار البترول خاصة، فهبطت إلى ثمانية دولارات للبرميل، وارتفعت حتى شارفت الأربعين، وكان ذلك عنتا وإرهاقا للمستهلكين والمنتجين معا. إلا أن العقد الأخير شهد ثورة كبرى في مجال الطاقة نفطا وغازا بسبب أمرين: الأول التطور الاقتصادي الهائل الذي تحقق في الصين والهند فجعلهما من كبرى الدول الصناعية في العالم، وبالتالي المستهلكة للطاقة. فإذا ما أضيفت إليها دول بحجم البرازيل والأرجنتين وكوريا الجنوبية، مضافا إليها اليابان المستهلكة من الأصل، فإن الطلب فاق العرض، ومن ثم ارتفعت أسعار البترول إلى 147 دولارا. ولم تكن زيادة الطلب وحدها هي السبب، بل كان أيضا التقلب على جانب العرض نتيجة خروج العراق من السوق، ومحدودية القدرة الإيرانية على التوسع، وضآلة الاحتياطيات لدى منتجين آخرين، جعل صادراتهم تقل ووارداتهم ترتفع. وما بين العرض والطلب استقر السعر تقريبا حول رقم مائة دولار للبرميل الواحد. هذا السعر كان بالتأكيد لصالح الدول العربية المنتجة للنفط، وأعطاها الفرصة ليس فقط للتعامل مع خططها التنموية الطموحة، بل أيضا التعامل مع العواصف الآتية مما سمي ربيعا عربيا كانت بداياته زهورا، وأواسطه حنظلا، أما نهاياته فلا تزال في علم الغيب.

الآن يبدو أن الدول العربية المنتجة للنفط سوف تواجه عاصفة أخرى متمثلة في استراتيجية أميركية منظمة، ويبدو أنها ناجحة، لزيادة عرض الطاقة بحيث يحدث تغير جذري في أسعار الطاقة الحالية اسميا وحقيقيا. ورأس الرمح هنا إنتاج الولايات المتحدة نفسها من مصادر الطاقة نفسها. وطبقا للتقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة «مستقبل الطاقة في العالم 2012» فإن هناك تصاعدا ملموسا في إنتاج الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي بحيث إنها ستتفوق على روسيا بحلول عام 2017، وفي عام 2020 على المملكة العربية السعودية عندما تنتج 11.1 مليون برميل يوميا مقابل 10.7 مليون للأخيرة. ورغم أن التقرير ذاته يشير إلى أن الحال سوف تنقلب مرة أخرى وتعود القيادة إلى السعودية مع حلول عام 2035، فإنه لا أحد يعلم حقيقة ماذا يمكن أن يحدث خلال هذه الأعوام، خصوصا مع توالي دخول دول جديدة نسبيا في إنتاج النفط مثل السودان شمالا وجنوبا، وارتفاع إنتاج دول أخرى نتيجة التقدم التكنولوجي مثل كندا والمكسيك، فضلا عن العودة الكاملة إلى العملاق العراقي الذي قد يصل إنتاجه إلى 8 ملايين برميل حال استقرار أوضاعه.

مثل هذا التحدي يقوم أساسا على زيادة العرض على الطلب، والتطور التكنولوجي المستمر، ولا يمكن الاستجابة له إلا من خلال نفس الأمرين، حيث يكون العمل على زيادة الطلب على العرض، وأن النفط والغاز ومشتقاتهما أغلى ثمنا وأعلى قيمة بعد تصنيعهما من وجودهما خاما في الأسواق. ولا أظن أن أيا مما سبق بخافٍ على حكومات الدول العربية المنتجة للنفط، ولكن ما ينقصه هو الاستراتيجية المتكاملة لتحقيق هذين الهدفين: زيادة الطلب، وتصنيع النفط. لقد كانت الطفرة الكبرى في مجال أسعار النفط عائدة في الأساس إلى زيادة الطلب من الصين والهند والدول الآسيوية واللاتينية الأخرى، وعندما جرى ذلك في دول كبرى وكثيفة السكان ولديها الإطار السياسي الطموح للتنمية سواء المعتمدة على الصناعة، أو الخدمات التي تحتاج إلى الطرق والسيارات، فقد كان هذا الطلب كبيرا وكافيا لطفرة الطلب في مواجهة العرض. صحيح أن الكارثة النووية اليابانية في فوكاشيما لعبت دورا في وضع سقف لتطور الطاقة النووية كمصدر بديل للطاقة، لكن المرجح أن ذلك سوف يكون له صفة مؤقتة سرعان ما تحاول تجاوزها الدول النامية. ويبقى بعد ذلك أن التنمية بالحجم الكبير المعتمد على دول كبرى مساحة وسكانا هو الذي يشكل الفارق الأساسي في ارتفاع الطلب على النفط.

هنا تحديدا تأتي الاستراتيجية لكي تجعل السياسات الاستثمارية للدول العربية المنتجة للنفط بحيث تكون في تلك الدول القابلة للنمو السريع القائم على التصنيع والتوسع من ثم في استخدام الطاقة. تحديد هذه الدول سوف يحتاج إلى دراسات خاصة، ولكن الأهم منها أنها تحتاج إلى سياسات متناغمة، خصوصا بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتلك التي لديها قدرة عالية على الإنتاج. فالحقيقة أنه لا توجد دولة عربية منفردة تستطيع استثماراتها أن تحقق انقلابا حقيقيا في سوق بلد من البلدان، ولكنها مجتمعة تستطيع تحقيق هذا الفارق. والأمر نفسه يسري على تصنيع النفط والغاز، ليس بمعنى بناء الصناعات البتروكيماوية الجارية فعلا، أو تكرير النفط، وهو ما حدث منذ زمن بعيد، وإنما بالنظر إلى الذهب الأسود باعتباره ذهبا فعلا بما يحتويه من عناصر مختلفة تصلح لتلبية احتياجات إنسانية متعددة. مثل ذلك سوف يقلل من ناحية من حجم المعروض من النفط الخام، ولكن من ناحية أخرى فإن فائدته السوقية تفوق بكثير أسعاره في حالته الأولية. ومرة أخرى فإن مثل هذا المنهج يحتاج إلى تضافر الجهود، وأجهزة البحث العلمي، والبحث في الأسواق الملائمة، وهو، ومرة أخرى، ما لا تستطيع دولة عربية منتجة للنفط أن تقوم به وحدها.