الخليج وتداعيات عدوى الأزمة (الثورة) العربية

TT

حديث الأزمة في المنطقة العربية هو حديث قديم، إلا أن طبيعة ومضمون الحديث فيه يختلف باختلاف قائله والموقع الذي هو فيه، بل إن المرحلة الزمنية التي نمر فيها قد أعطت بعدا مختلفا لذلك. فمن حديث عمن سوف تصل إليه رياح ما سمي بالربيع العربي، إلى الحديث إما عن سياسات للحد من تداعيات ذلك على البعض، إلى ماذا قد حل بالدول التي جاءت عليها رياح التغيير، إلى الحديث عن «أسلمة أو أخونة الربيع العربي» وبالتالي أخونة دول الربيع العربي.

من الناحية الأخرى فإن البعض قد يحدد الأزمة، إما في مجالها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، مقابل آخرين يعتقدون أننا نعيش في حزمة من الأزمات يغذي بعضها بعضا. وما زلت أتذكر التقرير المثير الذي صدر في مطلع الثمانينات في بريطانيا والذي حمل عنوان «أمة في أزمة» من خلال مناقشة إخفاقات النظام التعليمي البريطاني.

وبهذا المنطق فإن اختلال نظام مهم كالتعليم قد أدخل الأمة البريطانية في أزمة. فهل نحن الذين باتت تعصف بنا المشكلات والإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لا نعيش في أزمة أم أننا بتنا وبفعل هذا الاختلال العام الذي أحدثه الربيع العربي، نعيش في أزمة مركبة لا تستقيم في حله بعض من الحلول التقليدية التي جربناها في السابق القريب أو البعيد. بل إن جزءا أساسيا من تعقد المشكل وبالتالي استمرارية تداعياته هو أننا في حلولنا له لا نذهب بعيدا في ملامسة جذر المشكل وتداعياته.

بل إن ملامساتنا لعلاج الأزمة قد شابها قدر من التردد والافتقار لقدر أكبر من الحسم العقلاني في القرار، بل بتنا نستعير حلولا جاهزة من بعضنا البعض في المنطقة العربية، وهي حلول قد أثبتت تجارب هذه الدول عدم قدرتها على حل مشكلاتها هي، فكيف تحل مشكلات المجتمعات الأخرى ذات السياقات والظروف المختلفة.

فالدولة في المنطقة العربية قد هربت من استحقاقات التغيير عبر سلسلة من الإجراءات والعمليات وظفت فيها، درجة من الاستقطاب القبلي والطائفي والمذهبي ولربما الجهوي أحيانا. وهي عمليات، على الرغم من مغانمها السريعة، إلا أنها تقود على المدى المتوسط كما البعيد إلى اختلالات في هيكل الدولة وضعف في أدائها لوظائفها ودورها وفي علاقتها بالمجتمع.

بل إنها تفقد الدولة إحدى أهم ركائز تكوينها العقلاني: وهو الرشد، وذلك بدخولها طرفا في حالة الاستقطاب القبلي أو الديني وحتى الجهوي. وهي حالة دفعت بعضا منا (كأفراد وجماعات) في المنطقة للارتداد نحو مكوناته وتضامنياته التقليدية الأولى كسواتر للاحتماء أو دفعا للأضرار. وهي وسائط قد توظفها قوى ولاعبون سياسيون خارج إطار الدولة، يفتقرون لقدر من الانضباطية والرشد؛ المكونين الرئيسيين للدولة الحديثة.

وأعتقد أن ما قد يعقد كثيرا من المشكل هو حالة الشحن والشحن المضاد، والذي تجاوز في بعضه بعده السياسي ليأخذ في ذلك بعدا إثنيا خطيرا وصل لدرجة الكراهية المذهبية والقبلية والجهوية، لعبت، فيها الكثير من الوسائط التكنولوجية الحديثة والأطراف والجماعات، بمسألة الانتماءات القبلية والمذهبية، في عمليات الشحن والشحن المضاد. وهو شحن قد شيطن من البعض، وأربك أو قطع معه أو به سبل التواصل مع المختلف.

أي بمعنى آخر، قدرة الأطراف «المشحونة» المختلفة على الوصول إلى حلول توافقية أو مرحلية للأزمة أو المشكل. ومن الواضح أن لكل الأطراف المختلفة قدرتها على الشحن في أوساط جماعاتها المباشرة وفي أوساط سياقاتها السياسية والإثنية وبأدواتها الحديثة والتقليدية، القادرة من خلالها على التعبئة. بل بدت نتيجة لذلك، كل الأطراف، في خطابها وفي سلوكها، أقرب إلى «دغماتية الجماعات الآيديولوجية» منها إلى البراغماتية السياسية، التي يفترض أن يتصف بها اللاعبون السياسيون في الدولة، والتي يتطلبها فعل الخروج من المشكل.

بل إن حالة الشحن هذه، قد رافقتها حالات من العنف والعنف المضاد: اللفظي والجسدي، والذي، هو الآخر، بات يضيف مزيدا من التعقيد للأزمة والإرباك في ولوج حلولها. وهي في عمومها قد تعكس حالة من حالات اللاتوازن الاجتماعي والسياسي ولربما «الانفلات العاطفي». وهي تمثل في بعض حالاتها وفي بعض من ممارساتها، طورا من اللامعيارية الاجتماعية والسياسية، والتي باستمرارها، تهدد أن تفقد المعايير الضابطة للفعل والسلوك، في نسقها الأهلي أو الرسمي، قدرتها على ضبط الفعل أو العمل على عقلنته.

أي أن يفقد الفعل ورد الفعل مرجعياته القانونية والأخلاقية. وإن استخدام لغة التخوين أو التهديد، التي بتنا نسمعها من كل الأطراف أو توظيف لغة غير سياسية، فيها الكثير من التحدي والرغبة في المنازلة، أو الدفع، من الناحية الأخرى، بتغليظ الفعل الرسمي في أطره القانونية أو الإجرائية، قد لا يجدي نفعا في مداه المتوسط أو البعيد، دون أن يتضافر معه فعل سياسي وثقافي مواز.

فإيقاف الفعل أو الجرم، كما نفهمه في العلم الاجتماعي، لا يتأتى فحسب من الحشد الإعلامي أو القوة الردعية لقانون الدولة أو بفعل توظيف عامل العنف الشرعي المنظم، بقدر ما هو نتيجة لتضافر جهود عدة وعوامل وجهات، دون تشاركها لا يستقيم للفعل الردعي دوره وبالتالي نجوع نتيجته. فالوطن، كما يقول المفكر الكويتي المعروف محمد الرميحي، «مودات مع سقوط المودة يسقط الوطن» (جريدة «الشرق الأوسط»، 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2012).

وليس جديدا القول، إن ترك معضلاتنا السياسية، والتي مر على بعضها سنون، دون حل أو حتى أفق لحلول ناجعة وقابلة للحياة أو رهن حلها بأزمات إقليمية أخرى، لا يحل الأزمة - المشكل، بقدر ما يجعل منها أو منه، «أزمة مزمنة» أو «مشكلا كرونيكيا».

ولا بد من القول إن حل الأزمات والمشكلات في ذاته قد أصبح علما قائما بذاته، له متخصصوه ومراكزه المعروفة. وبات منطقه يقول إن حل الأزمات لا يمكن مقاربته بالكامل بحلول تقليدية، بل إن التعويل على قدرة الزمن في حله هو تعقيد آخر للمشكل المتأزم. كما أن حل المشكل، لا يمكن أن يتم دون مدخل من أصله وليس بمداخل أخرى. فالمشكل السياسي لا يمكن حله إلا بمدخل من ذات النوع وكذلك الاجتماعي والاقتصادي و..... هلم جرا.

من الناحية الأخرى فنحن هنا لسنا في مواجهة مشكل أو معضل سياسي فحسب، بل إن تداعياته ولربما توظيفاته، قد قادت إلى تداعيات اجتماعية وثقافية ولربما دينية، باتت تتعايش عليه أو عليها أفراد وفئات وجماعات تأتي من مشارب عدة، ولها في ذلك مرام كثيرة، تضيف بفعلها إلى واقعنا «المتأزم» ألما آخر وتعقيدا مضافا.

فأي أزمة تطول في الزمن تستهلك طاقات الدولة كما المجتمع، وتعطل من عمليات النمو وتزيد من تشرذم المجتمع أفقيا وعموديا، وتعمق من درجة الاستقطاب فيه وتصبح فيه المعطيات الذاتية معيارا لتحصيل المنافع والصعود. أي بمعنى آخر، إن تكلفة التغيير المتأخر غالبا ما تكون عالية عن التغيير المبكر والموجه، بل إن تكلفة التغيير الاستباقي غالبا ما تكون تكلفتها صفرا على الدولة والمجتمع.

فالحل لأي معضل بهذا التعقيد لا بد أن يكون حلا مؤسساتيا وتوافقيا وأن يأخذ أولا: بعده الزمني والمرحلي في الحل، أي عدم القفز على الواقع والتدرج الملزم في تحولاته، وثانيا: لا بد أن يكون الحل شاملا، كنتيجة لتعدد مصاحبات الأزمة السياسية، أي أن تأخذ عملية الإصلاح بعدها: الاجتماعي والديني والثقافي والاقتصادي الذي بات متأصلا فيها. فحجم العطب في النسيج الاجتماعي مثلا، أي الانقسام الأفقي، في بعض من مجتمعات المنطقة، قد بات كبيرا.

وهي في بعضها نتيجة لفعل عمليات الشحن الذي باتت المنطقة متأثرة بها ولربما منسحبة منها أو إليها من كل من إقليم العراق وسوريا، والتي وظفت تداعياتها على الداخل الخليجي من أطراف عدة ومن قبل قوى ذات مواقع مختلفة. وأن المطلوب لرأب الصدع الاجتماعي عمل أشمل وأعمق من بعض ما هو قائم، كقوانين وأنشطة. فتداعيات الأزمة السياسية في شقها الاجتماعي قد يتطلب، بالإضافة للحلول السياسية، عملا تأهيليا وممنهجا ومستندا إلى طروحات علمية وإلى تجارب ناجحة لشعوب ومجتمعات أخرى.

وقد يتطلب هذا، مثلا، تحييدا كبيرا لمتغيرات وعوامل قد جاءت من الفضاء الإعلامي وأخرى جاءت من الفضاء الديني، كما أنه يتطلب مدخلا إنسانيا وحقوقيا وإن جاء على النفس. ودون ذلك فإن حالة الدوران، حول المشكل السياسي، ستبقى لا تفارقنا، إذا لم نفارق نحن كأفراد وفئات وجماعات ومؤسسات، الحالة التي دخلنا فيها قبل بضع سنين.

وهو خروج يتطلب قدرا من الجسارة على النفس وقدرا من الانضباطية المؤسساتية، وتفويضا أكبر للعقل المعتمد على العلم ومحصلة تجارب الشعوب الأخرى، وهي شعوب أنقذتها من مآزقها السياسية، جسارتها على الولوج في الحل وبالتالي الخروج من أزماتها. فالجرأة على ولوج المستقبل لا تستقيم فحسب في درجة التمتع بمنتجاته، وإنما في قدرتنا على التبني العاقل والخلاق لمؤسساته وأنماط فعله وتقاليده الجديدة في الإدارة والحكم، أي أن نجسد في أقوالنا كما أفعالنا مجتمع المواطنة، وهي غاية ليس إدراكها بالأمر الصعب.

وقد قارب ذلك الرميحي عندما قال: «لم يعد (كافيا) أن يكون الإنسان ذا مال، بل يحتاج إلى كرامة أيضا، وعلى الجميع التفكير في تهدئة (الضجيج) الصامت (والمعلن) والذي يشتكي من التهميش وسوء الإدارة متزامنا مع هدر الموارد. هناك في البيت الخليجي الواحد مجموعة من المتغيرات التي لم يلتفت إليها أحد، ومن التفت إليها هون من تأثيرها، ورغب البعض في اختيار الصمت عن آثارها علها تختفي، إلا أن تركها تحت السجاد سوف يؤثر على سلامة.. النسيج الاجتماعي الخليجي» (جريدة «الشرق الأوسط» 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012).

* أكاديمي بحريني