احتجاب الصحافة وسفور السياسة

TT

لم ترفع جماعة الإخوان المسلمين لافتة واحدة تعكس توجهاتها الإسلامية منذ ثورة «25 يناير» وحتى استقر لهم الحكم في يونيو (حزيران) الماضي، بل إنهم أفرطوا في إنكار إسلاميتهم بتأسيسهم لفرع سياسي يعبر عن نفسه بالحرية والعدالة، المفردات البراقة الغربية المعروفة. كل ذلك لتوحي للآخرين بتغييرات موضوعية في نهجها نحو المدنية، وحتى لا يلفظ اسم «الإخوان المسلمين» أثناء جولات الانتخابات والمنافسة الضارية مع أحزاب أخرى كان ثقلها في ميزان الثوار أنها أحزاب مدنية وليست دينية.

تجرأوا على التبرؤ من أصلهم وفصلهم الديني، غاب المرشد العام عن الإعلام خلال حمى المنافسة، تغير الخطاب، ولم نعد نرى شعارهم التقليدي «الإسلام هو الحل» لأن المشكلة التي ثار الناس من أجلها لم تكن غياب الإسلام، واستبدلوا بمفردة الإسلام الديمقراطية التي ينشدها جمهور الثائرين على حكم الحزب الواحد.

تعهد المرشح محمد مرسي خلال فترة الانتخابات بأن يقيم دولة مدنية حديثة، وأن يعزز النظام الديمقراطي ويحترم استقلال السلطات. هذه ليست وعودا انتخابية اعتيادية كخفض نسبة البطالة أو الضرائب أو محاربة الفساد، لأن هذه الأخيرة تتوقف على مستوى أداء الحاكم ومهارته في إدارة شؤون البلاد، إنما احترام اختصاص السلطات والنظام السياسي الذي اجتمع عليه كل المصريين هو أمر لا نقاش حوله لأنه مركز استقرار الدولة.

بعد أن نكث الرئيس المصري بكل عهوده لم يعد من المدهش أن تعود الشعارات القديمة إلى الواجهة، لأن المسرحية التي برعت في أداء دورها جماعة الإخوان المسلمين انتهت، وانطلق الشعار الجديد يقول: «الشرعية والشريعة» أي أن دولة مرسي الجديدة ليست مدنية ولكنها دينية سياسية، أي أن من يحترم شريعة الإسلام عليه أن يكون تحت جناح الرئيس، حتى لو كان الرئيس منتخبا وفق معايير مختلفة.

ولكن علامَ كانت العجلة؟ لماذا ارتكبت جماعة الإخوان المسلمين هذا الخطأ الكبير مبكرا؟

في رأيي أن الدافع الذي أكسب الجماعة شجاعة إطلاق الإعلان الدستوري وشجاعة التمسك به، رغم أن التراجع عن القرارات أصبح سمة في سياسة الرئيس مرسي، الدافع الأول هو تعب الشارع المصري. الناس تعبوا، أنهكوا من الاعتصامات والمظاهرات والكثير منهم كما تحدثوا في الإعلام اختاروا مرسي لأنهم يدركون أن «الإخوان المسلمين» أكثر تنظيما وقوة من أي حزب آخر مما يجعل اختيارهم أقرب إلى الاستقرار وبذلك يأمنون من استمرار الشغب في الشارع.

الدافع الثاني هو نجاح القيادة المصرية في الوساطة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، هذا النجاح السياسي أكسبها قوة دولية كانت الجماعة بحاجة إليها، فإسرائيل صرحت بأنها تثق في مرسي وترى فيه صديقا مثلما يرى فيها صديقا، والبيت الأبيض يشعر بالامتنان لأن مرسي استطاع حل الأزمة والمساهمة في تخفيف الضغط عن واشنطن، وحركة حماس لا تسعها الأرض فرحا لأن مرسي توسط في هدنة بينها وبين إسرائيل طويلة الأمد، أي أن غزة أصبحت بيت الحكم المستقر لحركة حماس، ولتتأجل المقاومة إلى عقدين أو ثلاثة، وتبقى أحاديث المقاومة حكايات تروى في المقاهي.

لم تكن جماعة الإخوان المسلمين تتوقع أن تتاح لها فرصة سياسية كما حصل في غزة، وقد انتهزتها لأنها تشك أن تتاح لها فرصة مشابهة قبل الانتخابات، ولأنها تدرك تماما أن الانتخابات لن تكون في صالحها هذه المرة، وأن التاريخ لن يعيد نفسه، فلم يكن أمامها إلا السيطرة على السلطة التشريعية باحتلال السلطة القضائية وإخراس السلطة الرابعة، أي الصحافة.

الدولة المصرية الحديثة رغم علومها الواسعة واحتضانها لآلاف من المهنيين وحملة الشهادات، برعت أكثر ما برعت في فرعين؛ القانون والإعلام، ولن تجد طالبا في أي جامعة عربية يدرس القانون دون المرور على القانون المصري رديفا للقانون الفرنسي، ولن يتخرج طالبا في مجال الإعلام دون أن تكون التجربة الصحافية المصرية نموذجا للتحليل والمقاربة. اليوم تمتهن هذه العلوم ويمتهن أصحابها بشكل فج من نظام سياسي ضرب بثقة المصريين فيه عرض الحائط.

ليس جديدا القول إن الأنظمة السلطوية لا تخشى شيئا مثل الإعلام، لأنه يفضح ممارساتها ويؤلب الجمهور ضدها، واحتجاب الصحف المصرية احتجاجا على الهجوم عليها وتهديد رموزها وإهانة العاملين فيها والتضييق عليها بالإعلان الدستوري محل الجدل، هو مؤشر خطر ضد أي نظام سياسي، لأن استعداء الإعلام في دولة مثل مصر هو بمثابة إعلان حرب.

حتى الذين لا يتفقون مع الإخوان المسلمين لم يكونوا في أسوأ التوقعات مستعدين لسيناريو كالذي جاء في الإعلان الدستوري، والذين عصروا ليمونة على مرسي ليستطيعوا هضمه وانتخبوه مضطرين، يعضون اليوم أصابع الندم، لقد نفر الناس منه، ولُقن الناخبون درسا بأن اختياراتهم مسؤولية سيدفعون ثمنها غاليا. أحد هؤلاء على حسابه في «تويتر» أعطى الناس الضوء الأخضر ليشتموه عقابا له على اختياره مرسي.

الإعلان الدستوري أثبت أن «الإخوان المسلمين» كما فشلوا كمعارضة في فترة رئاسة حسني مبارك ولم يستطيعوا أن يهزوا عرشه، فشلوا اليوم على كرسي الحكم، وهذا الفشل سيظل وصمة عار سوداء على جبين الإخوانيين، أو «زبيبة» كما يحلو لهم تسميتها.