مصر والإخوان: جماعة غصت بوطن

TT

تاريخ مصر كبلد محوري في الشرق الأوسط ومكانتها ودورها أمر ليس بحاجة للبرهنة والتدليل، وما جرى بمصر منذ ما يقارب العامين كان حدثا جللا صنع تاريخا جديدا بمصر وفي المنطقة.

رأى البعض أن لا بأس بتحريك بيدق هنا وإزاحة آخر هناك، فركض كثيرون لهاثا خلف سراب الثورة وهم يحسبونها نزهة يطلقون فيها الشعارات ويعلّون فيها من الصراخ، ثم يعودون أدراجهم لقضاء ليلة هانئة مليئة بالأحلام الوردية، ولم تكد الرؤوس تهدأ حتى استحالت الأحلام كوابيس وأصبحت النزهة وبالا من أصولية، ونكالا من فوضى.

بقدر ما كان المشهد ملبدا بالغيوم وعاثر الخطى في التقدم بقدر ما كان إمعان النظر واجبا والتعب في التحليل فرضا والصراحة في الطرح على الرغم من مضارها أنفع وأبقى، وقد بدا واضحا أن الجماعات الأصولية هي المقبلة لقيادة دول الاحتجاجات العربية لأسباب متعددة، منها قوة الدعم الأميركي والغربي لتجريب حالة جديدة في المنطقة وقوة الخطاب الآيديولوجي لهذه الجماعات، وقوة التنظيمات التي بنتها عبر سنواتها الطويلة في العمل تحت الأرض، حينذاك اختبأ البعض تحت قناعة بأن قوة الديمقراطية قادرة على إخضاع تغوّل هذه الجماعات، وهو ما اتضح ويتضح أنه مجرد أماني.

وصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم بمصر وهي محملة بكثير من آلام الماضي وأحقاده وإحنه، خيالاتها مليئة بالظلم والاضطهاد، وخطابها مشحون بالألم الكربلائي والانتقام الاستعلائي، وأحلامها متخمة بالاستحواذ على كل أنواع السلطة، ومع ضخامة هذا الحمل وسيطرته عليها لم يكن لها من السياسة والقيادة شيء يذكر سوى تجربة المعارضة في الرفض والحشد.

كان يوم الأربعاء الماضي 5 ديسمبر يوما داميا بمصر، وكان حدثا يرتقي في توصيفه حد الجريمة، وترتيب الأحداث يسهل تشكيل الرؤية؛ قام الرئيس بإعلان دستوريٍ حصّن به قراراته ضد القضاء، ثم عجّل من وتيرة عمل اللجنة التأسيسية للخروج بدستور جديد ذي صبغة واحدة ولون واحد، ثم دفعت جماعة الإخوان حشودها وأتباعها لمنع قضاة المحكمة الدستورية من أداء مهامهم، وبدت الجماعة متشنجة في الاستحواذ على كافة السلطات في البلاد وإلغاء المعترضين وتهميشهم والاستفراد بالقيادة، فهي جماعة أسست من أول يوم لا على موازنات السياسة والحلول الوسط والحوار مع الفرقاء، بل على الطاعة العمياء والإرغام والفرض. بتعبير آخر أرادت قيادة الإخوان أن تدير دولة مصر بعقلية الجماعة لا الدولة وهنا مربط الفرس.

ولكن مصر أكبر من جماعة الإخوان فخرجت المعارضة التي تجمعت فيها القوى المدنية والأحزاب السياسية والكنيسة القبطية والمجموعات الثورية والرموز الوطنية لتعبر عن نفسها بشتى السبل فكانت المواقف السياسية والإعلامية والمظاهرات في التحرير وغيره، ومن ضمن هذا السياق كانت مظاهرة فاجأت الجميع بضخامة الحشد أمام قصر الاتحادية الرئاسي، ومن هنا جاء قرار الجماعة الخاطئ والذي يستحق الإدانة إلى حد التجريم بإرسال عناصر تنظيماتها السرية المدربة تدريبا جيدا لا للتظاهر في أي مكان من القاهرة، بل للاشتباك المباشر مع مظاهرة المعارضة أمام قصر الاتحادية، وعندما تلقي بحشد غاضب أمام حشد غاضب آخر في نفس المكان وفي أجواء من الاستقطاب السياسي الحاد والساخن، فإنك تتحمل أخلاقيا كل دم مراق من قتيل وجريح بغض النظر عن توجهه وانتمائه، وسبعة قتلى ومئات الجرحى تغرس في النفوس أحقادا، تقيم حواجز تسد أي أفق للحوار السياسي.

جماعة الإخوان المسلمين لمن يعرف تاريخها جماعة عنيفة، تستغل الدين وتوظفه لتحقيق أهداف سياسية، وهي جماعة مارست العنف السياسي المنظم داخليا وخارجيا عبر التفجيرات والاغتيالات وإنشاء التنظيمات العسكرية العنيفة وتصدير الثورات، لا ضد الخصوم فحسب بل مع بعض عناصرها التي تبدي اختلافا عن الجماعة، وحين يأتي نائب رئيس الجمهورية محمود مكي في أجواء شديدة الاحتقان ليصرح بأن «البقاء للأقوى» ثم تنقض بعد ذلك عناصر جماعة الإخوان على المتظاهرين ضربا بالرصاص و«الخرطوش» والعصي و«الشوم» وما تيسر من طوب ونحوه، فإن هذا لا يعني إلا شيئا واحدا وهو انحياز الجماعة الواعي لشريعة الغاب.

أظهرت الأخبار ومقاطع الفيديو والصور التي نقلت الحدث أن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت دولة داخل الدولة وعناصرها المنظمة أخذت كل أدوار مؤسسات الدولة، فقامت بمجموعة أعمال هي حق خالص للدولة، وذلك من مثل القيام بتفريق المتظاهرين باستخدام القوة، ثم قامت باعتقال مجموعات من المتظاهرين والتحقيق معهم وقد أبرز أحد المقاطع المصورة اثنين من الإخوان على إحدى بوابات الاتحادية يمارسان دور المحقق الجيد والمحقق السيئ على أحد المتظاهرين الذي مورس معه تعذيب شديد يظهر في وجهه الدامي وجسده المنهك، ويقومون بالإملاء عليه أن يعترف بأن أحدا ما منحه مالا ليخرج في المظاهرة، ثم حددوا تلك الجهة بالحزب الوطني. وقامت بعض عناصر الإخوان كذلك بدور البلديات وذلك بطمس الكتابات المعارضة على جدران القصر الرئاسي بطلاء جديد.

إن حجم الاستقالات في المؤسسة الرئاسية دليل آخر على فشل الإخوان في السياسة، فلئن كنت عاجزا عن توحيد مؤسستك التي تحوي بضعة عشر مستشارا ومساعدا خلف مشروعك وقرارك، فإن عجزك عن توحيد البلاد خلف مشروع وطني شامل سيكون أكثر وضوحا وأبرز فشلا.

صمت الرئيس محمد مرسي دهرا ثم نطق فلم يأت بجديد، لقد أصر على إعلانه الدستوري المكمل وأكد على المضي في الاستفتاء على دستور أحادي مرفوض، ثم دعا إلى حوار باهت وضع هو مسبقا أجندته دون التشاور مع أحد.

لم تزل لغة جماعة الإخوان المسلمين ولغة الرئيس مرسي تتجه بقوة إلى المنحى المؤامراتي في تفسير والتعامل مع الأحداث السياسية الكبرى، وفي هذا السياق فقد كان مما جاء في خطاب مرسي الخميس الماضي أنه ينطلق من حادثة فردية ثم يعممها بشكل مؤامراتي عجيب، وثمة مثالان في خطابه، الأول: أنه تحدث عن مجموعة تلتقي في مكتب ما تتآمر ضد الدولة والوطن وبدلا من أن يتعامل مع هذه الحادثة بشكل قانوني يحيل عناصرها للنيابة والتحقيق ثم المحاكمة، فضل أن يصدر إعلانا دستوريا ويدفع باتجاه دستور جديد بأسرع وقت، والثاني: تحدث عن الاعتداء على إحدى سيارات الرئاسة وإصابة السائق واتجه من هذا للحديث مؤامراتيا عن طرف ثالث وثمانين متآمرا ممن استخدموا السلاح. وقد تغاضى الرئيس عمن أمر عناصر جماعته بالاشتباك الذي أدى لقتلى وجرحى.

تبدو جماعة الإخوان المسلمين هذه الأيام وهي تغص بوطن أرادت ابتلاعه بأسرع وقت وسيكون على قوى مصر وشعبها أن يختار مصيره بنفسه في قادم الأيام. وقى الله مصر كل شرور.