بعد إغلاق القضاء.. الشعب يلجأ إلى قصر الرئاسة

TT

منذ قيام الدولة المصرية قبل أكثر من خمسة آلاف عام مضت، كانت العدالة - التي سماها المصريون ماعات - هي الأساس الذي بنيت عليه دولتهم. وقبل نحو ألفي عام من نزول الوصايا العشر على النبي موسى في سيناء، كان الفرعون الحاكم في مصر يواجه 42 قاضيا في قاعة أوزوريس، ليقسم أمام ميزان العدالة أنه لم يقتل ولم يسرق ولم يكذب ولم يظلم أحدا من المصريين. وظلت قدسية العدالة واحترام القضاء تحمي الاستقرار في مصر على مدى العصور والأزمان. وفي 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 أصدر الرئيس محمد مرسي إعلانا يمنع القضاء من النظر في تصرفاته هو، كما يمنع المحاكم من الحكم في القضايا المعروضة عليها بشأن لجنة الدستور ومجلس الشورى. وتنفيذا لقرارات الرئيس، قامت جماعات الإسلام السياسي بتهديد القضاة ومنعهم من الدخول إلى مقر محكمتهم الدستورية حتى لا ينظروا في قضاياهم. عندئذ سقط ميزان العدالة وانهارت هيبة القضاة، وخرج شعب مصر غاضبا إلى قصر الرئاسة يبحث عن ماعات وحكم القانون.

يقول الرئيس إن الهدف من إصدار قراراته هو تأمين مؤسسات الدولة التي يهدد القضاء بإسقاطها، ويقول الثوار إن حماية المؤسسات غير الشرعية يسقط ميزان العدالة. يقول الرئيس إن من يريد الاعتراض على قراراته عليه أن يقبل الاستفتاء على الدستور ليعلن اعتراضه، ويقول الثوار إنهم لم يعودوا يثقون في نتيجة الاستفتاء - بعيدا عن ميزان العدالة ورقابة القضاء؛ فبينما أعلنت الحكومة أن القضاة سيقومون بالإشراف على عملية الاستفتاء على الدستور، قال نادي القضاة إن 226 قاضيا هم الذين وافقوا على المشاركة في هذه العملية، بينما امتنع 2039. وفي غياب القضاء الذي يحكم بين الطرفين، وصل الوضع في مصر إلى طريق مسدود، فالرئيس مصمم على قراراته، والشعب مصمم على رفض هذه القرارات.

وعندما لم يفلح اعتصامهم في ميدان التحرير في تغيير إصرار الرئيس مرسي وجماعات الإسلام السياسي على تجاهل مطالبهم بإسقاط الإعلان الدستوري وحل جمعية الدستور، قرر الثوار التوجه إلى قصر الرئاسة والاعتصام أمامه. ولم تفلح الأسلاك الشائكة والشرطة في منع مئات الآلاف من الشباب من الوصول إلى قصر الاتحادية في مليونية «الإنذار الأخير»، وعادت هتافات الثورة تطالب الرئيس بالرحيل، واضطر مرسي إلى مغادرة القصر الجمهوري إلى منزله في التجمع الخامس. ومع هذا فقد قام الثوار بنصب خيام الاعتصام أمام قصر الرئيس بمصر الجديدة، حتى تتم الاستجابة لمطالب الجماهير بإلغاء الإعلان الدستوري وإيقاف الاستفتاء على الدستور. وهددت القوى السياسية بالتصعيد في حال عدم استجابة الرئيس لمطالب الشعب، والدعوة إلى عصيان مدني قبل موعد الاستفتاء على الدستور في 15 ديسمبر (كانون الأول).

وفي وقت صار فيه الاقتصاد المصري مهددا بالانهيار، أدخلت قرارات الرئيس البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار، حيث يعاني المواطنون من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي لم تحاول الحكومة التعامل معها. عادت الاحتجاجات الفئوية وقطع الطرق من جديد في المحافظات، ففي الإسكندرية قام المئات في منطقة العامرية بقطع الطريق الصحراوي، بعد مصرع تلميذة وإصابة آخرين صدمتهم سيارة مسرعة. وفي السويس قطع بعض المواطنين الطريق المؤدي إلى مبنى المحافظة، مطالبين بالحصول على وحدات سكنية. وفي المنيا بالصعيد قام أحد العمال بقطع الطريق بين القاهرة وأسوان بالطوب، احتجاجا على فصل ابنه من المدرسة. وفي شرم الشيخ بجنوب سيناء، تسبب إضراب العاملين في «الشركة المصرية للمطارات» في ارتباك بالمطار الدولي، مع وصول 106 من الرحلات السياحية. وفي كفر الشيخ بالدلتا تظاهر العاملون وأولياء الأمور بإدارة سيدي سالم التعليمية، احتجاجا على إقالة مدير الإدارة.

ومن ناحيتها اعتبرت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية أن الإعلان الدستوري الأخير وطرح مشروع الدستور للاستفتاء رغم عدم إجماع القوى السياسية عليه عمل «يقلق واشنطن والمجتمع الدولي»، وحذرت مرسي من «الانقلاب على الديمقراطية». وقالت كلينتون إن مصر «تحتاج لدستور يحمي حقوق الجميع ويخلق مؤسسات قوية». الكل يتساءل: لماذا يصر الرئيس على أن تقوم فئة واحدة من شعب مصر – ينتمي هو إليها - بكتابة الدستور الذي يجب أن يمثل جميع الفئات. وبينما كان عمر سليمان – نائب مبارك – وقادة القوات المسلحة ينصحون الرئيس السابق بالاستجابة لمطالب الجماهير، فقد شجع ائتلاف قوى الإسلام السياسي الرئيس مرسي على المضي في تجاهل مطالب الثوار، بل إن بعضهم أعلن عن معارك الجهاد ضد أبناء مصر لو حاولوا إسقاط رئيسهم. وهتف «الإخوان» أمام جامعة القاهرة يعلنون ولاءهم للمرشد العام: «يا بديع، يا بديع.. انت تأمر واحنا نطيع»، كما هتفوا لمحمد مرسي مهددين بقتل الثوار: «ادينا إشارة، نجيبهم لك في شكارة». فهل يتراجع الرئيس مرسي في الوقت المناسب، أم تشهد مصر صراعا مفتوحا بين «الإخوان» والثوار؟