مصر تتشقق وسوريا تتناثر وفلسطين تتوالد

TT

بينما مصر تتشقق وتلوح في فضاء مجتمعها، المتخلي بالتدرج عن سماحته وطيبته، غيوم السورنة وربما اللبننة، وسوريا تتناثر يوما بعد آخر دمارا ودما، وما يعكسه هذا التشقق والتناثر يصيب الدولتين الرقمين الصعبين في المعادلة الإقليمية من عذاب في النفس وخشية مما يمكن أن تؤول إليه الحال من تداعيات تراوح بين الاحتراب الأهلي وانبعاث ظاهرة الأنظمة العسكرية - فإن الذي تحقق على الصعيد الفلسطيني يشكل لحظة طمأنينة للنفس العربية التي أثقل عليها التشقق والتناثر اللذان نشير إليهما، مع ملاحظة أن الأمر لا يقتصر على الدولتين العربيتين الكبريين، وإنما هنالك بقية دول في الأمة يدفع بها القيمون عليها إلى مهاوي التشقق والتناثر. وما نراه يتواصل في العراق والسودان وتونس ولبنان والكويت والأردن وليبيا - يندرج بنسب متفاوتة في أجندة التشقق والتناثر.

وحيث إن نفوس أبناء الأمة تكاد تختنق من صولات التحزب والتعصب والعناد والفتاوى الاستفزازية والجنوح نحو التفرد والتسلط بذريعة صناديق الانتخابات، فإننا نقف متأملين وآملين بارتياح أمام نسمة تفاؤلية في الجو الخانق تتمثل في جديد الحالة الفلسطينية، حيث جاء فوز فلسطين بالعضوية المتواضعة في الأمم المتحدة دولة بصفة مراقب يؤكد حقيقة أساسية وهي أنه ما ضاع وطن، كما الحق، وراءه مطالب حتى إذا بلغ الصبر عامه الخامس والستين، ثم ها هي فلسطين - الدولة التي اغتصبها المجتمع الدولي وأهداها إلى بضع عصابات صهيونية، حولتها هذه بدورها إلى دولة إسرائيل، أعلنت عن قيامها يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947. تبدأ الخطوة النوعية في اتجاه أن تطوى بضع صفحات من كتاب القضية مكتوبة بدماء كوكبات من الشهداء، وممهورة بالتشرد والإذلال والارتهان، وعذابات كانت - حتى اصطفاف عذابات اللبنانيين في السبعينات والثمانينات، إلى جانب عذابات العراقيين في التسعينات، فالعذابات الراهنة للسوريين - رمزا لقسوة العذاب، تقاسيها النفوس البشرية قبل الأبدان.

وعندما نرى أي فرح غمر نفوس أبناء الشعب الفلسطيني لنيل فلسطين العضوية المتواضعة في الأمم المتحدة، يتأكد لنا كم أن هذا الشعب الصابر على الضيم تواق إلى لحظة لا تعود فيها القضية أداة استعمال لأغراض في النفوس، وغايات لتحقيق مآرب أطراف باحثة عن أدوار تعزز من خلالها مكانتها. كما يتضح لنا ما كان يوحي به الرئيس الراحل ياسر عرفات من خلال أبيات من الشعر وضعها في إطار وعلقها على أحد جدران بعض مقراته المتنقلة الكثيرة، وطالما سألناه لماذا هذه بالذات من سائر ديوان العرب اصطفاها له رديفا لعبارته المأثورة «ثورة حتى النصر». وهذه الأبيات هي:

«سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري

وأصبر حتى ينظر الله في أمري

وأصبر حتى يعرف الصبر أنني

صبرت على صبر أمر من الصبر».

أبيات تعبر تماما عن شخصية هذا القائد، الذي تصدر المسيرة الفلسطينية وفق قاعدة (من تأنى نال ما تمنى ومن صبر ظفر). وبموجب هذه القاعدة، لم يترك عرفات طيفا عربيا أو دوليا إلا وبنى معه أفضل علاقة. كما لم يترك وجنة أو رأس أحد من القادة العرب والمسلمين وكبار المسؤولين في الدول الأوروبية إلا وطبع عليها قبلة، بما في ذلك خد وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت. وحتى بعدما خذله رهانه على الاصطفاف مع الرئيس صدام حسين في غزوته الكويتية، فإنه بذل من السعي الكثير لكي يستعيد طبيعته، مغدقا على عاتبيه الكثير من الاعتذارات والقبلات على الرأس. ولكنه في معرض تبريره أمامنا لذلك الاصطفاف، كان يرى أن القائد العربي الذي يكسر حاجز الخوف (يقصد الرئيس صدام) ويرمي إسرائيل ببعض الصواريخ - يمكن أن يساهم في تحويل بعض الكوابيس الفلسطينية إلى أحلام بالعودة ولو بعد حين. وها هي صواريخ حماس تجرب بعد ثماني سنوات من رحيل عرفات العلاج الصاروخي وتساعد بما حققتْه هذه الصواريخ من هلع داخل المجتمع الإسرائيلي في تسهيل حصول فلسطين على العضوية المتواضعة في الأمم المتحدة، وهو إنجاز يوجب علينا الإشارة أيضا إلى ذوي الفضل وإن بنسب متفاوتة في إنجازه، بدءا بتقديم الرئيس جمال عبد الناصر إلى أصدقائه السوفيات في الستينات الرمز حديث الولادة للنضال الفلسطيني ياسر عرفات، ثم بعد ذلك للمبادرة العربية التي صاغها الملك عبد الله بن عبد العزيز واكتسبت إجماعا عربيا غير مسبوق عليها. وفي تقديرنا أنه لولا تلك المبادرة التي وضعت حدا للاجتياح التصالحي مع إسرائيل، ومن قبل أن تكون هنالك خطوات على قاعدة الرد على الرغبة في التسوية تتمثل في التعهد بالنأي عن العدوان - لربما كان من غير الممكن حدوث هذا التحول في عشرات مواقف الدول الأوروبية وغيرها، بحيث تعاطفت مع الطلب الفلسطيني المتعلق بالعضوية المتواضعة... أي دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة.

وبقدر ما يثلج الصدر الفلسطيني والعربي عموما أن 138 دولة اعترفت، وبعضها كان في تصويته إلى جانب قرار العضوية، متحديا العناد الإسرائيلي، ونعني بهذا البعض الدول الأربع عشرة الأوروبية التي صوتت مع قرار العضوية، وبينها معظم الدول الأوروبية التي تعتمد الحياد والسلوك العادل في التعامل، أمثال سويسرا.... بالقدر نفسه، يستغرب المرء كيف أن بريطانيا، التي هي رمز العلة في تسليم فلسطين لليهود من خلال ما عرف «وعد بلفور»، امتنعت عن التصويت، مع أن المناسبة تستحق منها التكفير عن الذنب البلفوري، والتصرف بنوع من الحنكة على نحو ما فعلتْه فرنسا وإيطاليا رغم ضغوط إسرائيل عليهما، وما فعلتْه أيضا روسيا، التي هي شريكة بريطانيا في موضوع إهداء فلسطين العربية المسلمة المسيحية إلى الصهيونية. ويزيد استغرابنا من اشتراط بريطانيا على الرئيس عباس لكي لا تمتنع عن التصويت لمصلحة مشروعه التعهد بعدم لجوء «دولته» إلى مقاضاة إسرائيل لدى المحكمة الجنائية الدولية، مع أن شخصيات رسمية مدنية وعسكرية إسرائيلية تفادت زيارة بريطانيا ودول أوروبية عدة لتفادي محاكمتهم بتهم جنائية، ولذا فكيف تمنع حقا عن الطيف الفلسطيني المظلوم، مع أنها تجيز لمحاكمها بموجب قوانين ثابتة القبض على أي مسؤول إسرائيلي في حال كان مدانا بجناية، وبصرف النظر عن هوية المجني عليه، بريطانياً كان أم فلسطينياً. وكيف لا تتذكر بريطانيا الحاضر قول الملك عبد الله بن عبد العزيز، خلال زيارة له كولي للعهد لبريطانيا عام 1988 لرئيسة الحكومة مارغريت ثاتشر: «إن وعد بلفور عار يجب على الجيل الحالي في بريطانيا أن يصححه...». لكن، على من تقرأ نصائحك أيها القائد الحكيم.

كما أن ما يثلج الصدر هو أن أي صوت فلسطيني بعد الآن، كما تتطلب الحنكة، من المصلحة ألا يعلو على صوت التركيز على تحقيق المصالحة التي لم تعد موضوعا يتبارى القادة الفلسطينيون في الإكثار من النقاش حوله، خصوصا أن عقدة المصالحة باتت، أو هكذا يجب أن تصبح، ليست من المستحيلات. فكما أن صواريخ حماس أدت الواجب، فإن ما فعله الرئيس محمود عباس، وعلى مدى ثلاث سنوات، كان نوعا من الصواريخ التي لا تقتل بشرا، وإنما تذلل عقبات وتجعل فرصة التفهم للموقف الفلسطيني أفضل. ولولا هذه الصواريخ العباسية التي لا تقتل ولا تدمر، لما كان للصواريخ الحمساوية، التي تبعث الهلع في النفوس وتقتل عندما تصيب، أن تثمر تهدئة. وإذن، فإن الطرفين أديا الواجب، وإن كان ذلك من دون تنسيق. وكانت التأدية فاعلة بدليل أن المجتمع السياسي والحزبي الإسرائيلي انقسم، بين من يرى أن محمود عباس راهن وحقق مكاسب، وأن نتنياهو هدد ولم يجرؤ على استكمال ما كان ينويه اجتياحا، وأن وزير الدفاع إيهود باراك آثر الخروج من المشهد السياسي بعد العسكري إلى الأبد، تأكيدا لإخفاق المخطط العدواني الذي لم يحقق استسلاما فلسطينيا، بل على العكس أسقط ظاهرة الاستحالات؛ من استحالة التوافق الفلسطيني إلى استحالة القبول الأممي بالدولة الفلسطينية، وإن هي جاءت في صيغة «دولة مراقب».

ويبقى الآن ما هو الأهم، متمثلا في توديع لغة السلاح والترحيب بلغة الدبلوماسية المستندة إلى الرؤية الاستراتيجية وحذاقة أهل القانون في مقاضاة إسرائيل التي تحتل، وإجبارها على دفع التعويضات المالية التي هي أكثر ما تزعج الشخصية اليهودية التي اعتادت - بذريعة الشعب الذي لا وطن له والمضطهد من النازية - أن تجني من المال الأميركي والأوروبي ما يعزز بقاءها وعدوانها وابتزازها. وعندما نقول: وداعا أيها السلاح وأهلا أيها التفهم، فهذا لا يعني أن القضية وصلت إلى خواتيمها. لكن الذي نريد قوله هو أن المجتمع الدولي سيكون بعد الآن متعاطفا أكثر مع الموضوع الفلسطيني، وسيكون الطيف العربي - وبالذات دول الخليج المقتدرة ماليا - شديد الحرص على تشجيع الفلسطينيين للتطبيع مع النهج الجديد لقضيتهم. وأما رد الفعل الإسرائيلي، المتمثل في تجميد أموال عائدة للفلسطينيين وإقرار خطة لبناء ألوف الوحدات السكنية، فإنه رد فعل يتسم بالخيبة. وحتى إذا نفذ نتنياهو خطة البناء هذه، رغم الاعتراض الأوروبي والأميركي الخجول، فإن ساكني هذه الوحدات مستقبلا هم عائلات فلسطينية، تنتقل إليها من المخيمات داخل الأراضي المحتلة وخارجها. ولن ينزعج المجتمع الدولي من ذلك لأنه يريد أن يرتاح من البكاء الإسرائيلي الدائم ومن الابتزازات، التي ما إن تتوقف لبعض الوقت حتى تستأنف من جديد. بل إن أميركا أوباما، الولاية الثانية، سترى أنه قد آن الأوان لعدم تجديد بوليصة الأمان المالي والعسكري من جانب الولايات المتحدة لإسرائيل، ما دام الشعب الفلسطيني ارتضى صيغة «الدولة المراقب» كخطوة نوعية على طريق «حل الدولتين»، وهذا ما نادى به الرئيس أوباما في مطلع ولايته الأولى وما بات، وقد كسب رهان الشعب الأميركي، من حق المجتمع الإنساني عليه مطالبته بأن يقتحم غمار الخطوة التاريخية وتقوم بذلك الدولة الفلسطينية وفق مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي نتمنى له موفور الصحة ليشهد مع ولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز والشعب السعودي الذي آزر القضية كما لم يؤازرها آخرون، استكمال قيام الدولة المأمولة وعاصمتها القدس الشريف. ومثل هذه اللحظة، تعوض الأمة ما تقاسيه النفوس من المشهد الراهن، حيث مصر تتشقق وتصبح حالها الحزبية والسياسية مثل حالها الكروية المنقسمة تعصبا عميقا بين زملكاوية وأهلاوية، وحيث سوريا تتناثر بعد اتساع رقعة العزلة عربيا ودوليا على نظامها الذي أضاع الفرص الإنقاذية، وحيث دول عربية أخرى لا مستقر لها إلا إذا تعقلن أولو الأمور حكاما ومعارضين.