أخطاء قاتلة.. الطائفية

TT

ليس المقصود بالطائفية هنا تلك التي رعتها ونمتها السلطة السورية خلال نيف ونصف قرن، وجعلت لها وظيفة محددة، مزدوجة الطابع، هي:

- أن تكون حاملها ما قبل المجتمعي، المحدث أمنيا والموضوع في خدمتها بغض النظر عن أية ظروف أو شروط.

- أن تلعب دورا تمزيقيا بالنسبة إلى القاع المجتمعي، وتحول بالقوة إن لزم الأمر دون وحدة السوريات والسوريين ضد السلطة أو في مواجهتها.

هاتان الوظيفتان بينت الأزمة السورية الراهنة كم نجحت السلطة في تحقيقهما، وكم ألزمت المواطنات والمواطنين بهما. وعلى عكس ما كان متوقعا أو شائعا، فقد ظهر واضحا فشل السلطة في ما كانت تعد نفسها به من تحويل الصراع المجتمعي ضدها إلى صراع؛ فاقتتال طائفي بين المواطنين، يجعل منها حكما في عراك كانت طرفا فيه.

ما أعنيه بالطائفية في هذه المقالة هي تلك النزعة الموجودة لدى أطراف وازنة في المعارضة نحو تطوير طائفية بديلة أو نقيضة لطائفية السلطة الرسمية، وهي نزعة ظلت خارج النقاش السياسي أو الوطني العام، رغم أنها خطيرة إلى درجة أنها يمكن أن تفضي إلى إنجاح خطط النظام في إثارة حرب أهلية وطائفية عامة، لكونها تمثل الوجه المقابل لطائفيته وتملي على أتباعها سلوكا مشابها لسلوك السلطة، إن توطدت وسادت حلت كارثة لا حدود لها بسوريا، قد تؤدي إلى إنهاء وجودها بوصفها دولة ومجتمعا موحدين.

مثلما تنفي السلطة عن نفسها الصفة الطائفية، وترى فيها تهمة تعاكس في مضمونها ومحتواها بنية النظام «العلماني» القائم، تنفي المعارضة عن نفسها هذه الصفة وترى فيها تهمة ظالمة لا مبرر لها، بحجة أن القوى الديمقراطية تكون غير طائفية بحكم بنيتها ووظيفتها، ومثلها القوى الإسلامية التي تؤمن بوحدة المؤمنين. لا يعني ما سبق أن القوى الديمقراطية والإسلامية تتقصد أن تكون طائفية، على غرار ما فعلته السلطة، بل هو يعني أحد أمرين:

- إما أنها لا تثق بالطائفة التي تعتقد أن النظام يعتمد عليها، ولا تحبذ وجود المنتسبين إليها بين أعضائها، خشية أن يخترقها النظام بواسطتهم. ومع أن جميع أحزاب المعارضة السورية تنفي عن نفسها تهمة الطائفية، فإن الممارسة التي تقصي أبناء طوائف بعينها عن صفوفها تعتبر شائعة بينها، وتأخذ غالبا شكل أحكام مسبقة لدى أعضائها، أو «توجيهات داخلية» مسكوت عنها تحذر من التراخي التنظيمي وازدواجية الولاء في حال قبول أفراد مما يسمونها «طوائف النظام» بين صفوفها. يعزز أصحاب هذه التوجيهات مواقفهم بالحديث الصحيح عن الحضور الأمني الكثيف بين المنتسبين إلى بعض الطوائف المحسوبة على النظام.

- أو أنها قررت إقصاء من تسميهم «الطائفيين» عن صفوفها، كي لا يسمموا أجواءها الخاصة بصفتها معارضة، أو يشوهوا صورتها لدى الرأي العام المعادي للنظام، الذي يتبنى قسم غير قليل منه مواقف طائفية ضد هؤلاء. إلى هذا، هناك في المعارضة جماعة سياسية طائفية حقا، لا تقبل انتساب أعضاء من جميع الفئات السورية إليها، وتقصر عضويتها على أبناء مذهب بعينه، فالطائفية هنا عضوية ولصيقة بالتنظيم، تبرر مرة بكون أتباع المذهب المعني هم أغلبية وهذه لا تكون في العادة طائفية، ومرة أخرى بأن هؤلاء يروجون أفكارا عامة ويعملون في سبيل مقاصد سياسية واجتماعية تخص جميع المواطنين، فلا يعقل أن يكونوا طائفيين أو أن تنطبق عليهم تهمة الطائفية.

ومع أن طائفية المعارضة ليست في شدة ووضوح طائفية النظام، فإنها موجودة بالطريقة المسكوت عنها التي سبق ذكر بعض أوجهها، وتلك التي أملتها السلطة على السوريين، وتحول بينهم وبين التطرق إلى موضوع الطائفية وتجعله محرما لا يجوز الاقتراب منه، لأن ثمن ذلك مرتفع سياسيا وباهظ أمنيا، بما أن النظام ينقض دون إبطاء أو تسامح على أي مواطن يلفت الأنظار إلى الظاهرة أو يبرز خطورتها، ويفتك به بحجة تقويض الوحدة الوطنية، واختلاق مواضيع زائفة تضر بطابع السلطة العلماني وتضعف البلاد والعباد، وتخدم بالتالي الأجانب. ولعله من بلايا الطائفية السورية أنها لم تكن في أي يوم موضوع حوار مفتوح أو تأمل صريح أو معالجة جدية داخل سوريا، وأن السلطة ومعارضيها يتعاملون معها وكأنها غير موجودة، مع أنها أساس رئيسي في بناء الأولى وتحدث تأثيرا سلبيا جدا بالنسبة لقدرة الثانية على بناء نفسها كمعارضة ديمقراطية حقا، أو كمعارضة فاعلة ومؤثرة وواعدة. ورغم إحساس المعارضة بأهمية المسألة، فإنها لم تطرحها وتناقشها بصورة معلنة في أي يوم، ولم تجعل منها نقطة مركزية أو دائمة على جدول أعمال التنوير الفكري والمعرفي، الذي لطالما قالت إنها تريد إيصال مفرداته ومضامينه إلى المجتمع. هكذا، حدث أن النظام واصل الاعتماد على الظاهرة الطائفية باعتبارها عاملا مفتاحيا في استقراره الداخلي، بينما أحجمت المعارضة عن التطرق إليها أو التصدي لها، رغم تفاقمها في الواقع، وتقدمها في كل مكان ومرفق، داخل أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، وفي بيروقراطيتها، وبالنسبة لقدرتها على تهميش المعارضة وجعلها برانية. تجاهلت المعارضة في برامجها وأنشطتها مشكلة شقت العباد وهددت البلاد، تتصل أوثق اتصال بحياة السوريين الوطنية والشخصية، مع أنها لم توجد لها مكانا بوصفها مشكلة سياسية بالغة الخطورة والحساسية في سلم أولوياتها أو ضمن المعالجات التي تقترحها لأمراض الدولة والمجتمع، ولم تجد في نفسها الجرأة على التصدي لها والحد من تأثيرها الفعلي، لأسباب بينها بنية عضويتها ذات الطابع الذي يرجح غلبة طائفية لصالح مكون معين من المكونات الوطنية، مع كل ما ترتب على ذلك من تشوهات طالت مجمل الحياة الوطنية.

تعاملت المعارضة مع مشكلة الطائفية وكأنها غير موجودة، رغم اقتناعها الصحيح بأنها تحتجز الحياة السياسية وتمنح النظام أرجحية تجعله الطرف الوحيد المؤثر حقا داخل الواقع السوري، الذي يخترقه ويضعفها دون أن تتجرأ حتى على الدفاع عن نفسها، خشية أن يتهمها النظام الذي رعى الفرقة الداخلية على أسس مذهبية وفئوية بالطائفية وتقويض الوحدة الوطنية وخيانة العلمانية.

في الزمن الجديد، الذي نتجه إليه بفضل تضحيات شعبنا، سيكون من الجنون تجاهل مكان ودور الطائفية في حياتنا العامة، ومن الخيانة حقا الامتناع عن معالجة وتصحيح آثارها الكارثية على وجودنا الوطني، والإحجام عن إرساء أسس تحول دون استغلالها من جديد لتقويض المصالح العليا للدولة والمجتمع، بعد أن بات جليا أن تجاهل المشكلة لا يلغيها، بل يفضي إلى تفاقمها بطريقة تحول أكثر فأكثر دون السيطرة عليها، رغم أنها تفتك بالأمن المجتمعي وتبطل كل ما يقوم عليه الشأن العام من قيم وأسس جامعة، وتفسد نفوس الأفراد والتنظيمات السياسية والواقع الإنساني في آن معا!