قل ولا تقل

TT

من دبي حملتني الطائرة إلى كردستان العراق، متجاوزا في طريقي أرض الفساد والإرهاب والتخلف في جنوب الوطن ووسطه. حلقت بنا الطائرة وأنا أردد كلمات محمد مهدي الجواهري:

قلبي لكردستان يهدى والفم

ولقد يجود بأصغريه المعدم

ولقد جدت بقلبي لكردستان وأنا صبي غرير عندما ذقت لأول مرة في حياتي مرارة الحب وحلاوته وتبادلت الهوى مع صبية من صباياها الحسان.

نزلت بنا الطائرة الإماراتية في مدينة السليمانية، عاصمة الثقافة لكردستان. كان لي موعد مع المؤتمر الأول لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق. ما إن دخلت الاجتماع حتى وجدت أن عليّ أن أصلح لغتي، فلا أقول أقليات وإنما مكونات. فالأقلية تفيد تهميشا وتصغيرا لفئة هي التي تساهم في تكوين المجتمع والشعب والوطن. لا تقل أقلية وقل مكونة فتلك الفئة هي التي كونت هذا الكيان عبر العصور. ولا تقل إنك تدعو للتسامح بل قل التعايش. فالتسامح يعني أن تلك المكونة قد ارتكبت جرما أو عيبا أو شناعة وأنت تتصدق عليها بتسامحك لها. وصححني ملا بختيار، العضو البارز في قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، فلا يصح أن أقول الأكراد بل أقول الكرد. فالأكراد تعني تجميع شرذمة من الأفراد المشتتين. الكرد تجسم الشعب ككيان وطني. وبالطبع لا تقل كرد بل قل كورد، فالكرد يحترمون الحركات عندما يكتبون ولا يتجاهلونها كما يفعل العرب.

ذكرني هذا الاختبار بالعمود المشهور الذي كان يكتبه كردي آخر، العلامة مصطفى جواد الذي دأب لعدة سنوات على نشر عموده الصحافي «قل ولا تقل» ليصحح كلامنا نحن العرب في استعمال لغتنا. ولكنني اليوم آمل أن تجود كردستان بإضافات تصحح بها لا لغتنا فقط بل وتفكيرنا أيضا. لا تقل مثلا «خلاف في الرأي» بل قل «عركة على الكعكة». ولا تقل ديمقراطية بل قل مرجعية.

بدأ المؤتمر ملا بختيار بكلمة قلما سمعت مثلها من أي زعيم آخر في بلاغتها وعقلانيتها وعلمانيتها والتسلسل المنطقي لأفكارها. صفق له الحاضرون تصفيقا مؤدبا باهتا. كنت أتوقع عاصفة من الهتاف والتصفيق ترتج له جدران القاعة. لم يحدث ذلك فهذه مدينة السليمانية والظاهر أن أهلها الكرد يعتبرون التفكير العلمي والمنطقي شيئا عاديا لا يلفت النظر كما هو الحال في عالمنا العربي حيث يزجون في السجن أو يفجرون قنبلة تحت سيارة كل من يفكر بهذا النحو العقلاني. فضلا عن ذلك وجدت هذا الزعيم الكردي يتكلم ويرتجل كلمته بلغة عربية ذكرتني بالكردي الآخر السالف الذكر، العلامة مصطفى جواد.

الفكرة الرئيسية من وراء طروحاته هي «الدين لله والوطن للجميع»، بما يعني فصل الدين عن السياسة. آمن بها ودعا إليها سائر المؤتمرين. كانوا يضمون ممثلين من سائر الطوائف الدينية في العراق، البلد الذي يحتوي على أكبر عدد من الطوائف الدينية في العالم بالنسبة لعدد سكانه. استمعت لمجموعة مزعجة من الحكايات والوقائع التي تتعرض لها هذه الفئات الآن في العراق، بما اضطر الكثير منهم إلى هجرة بلدهم الذي عاشوا فيه منذ مئات السنين.