سقوط الدولة الإسلامية وصعودها!

TT

عنوان المقال هو عنوان لكتاب أستاذ الدستور والقانون الدولي في كلية القانون في جامعة هارفارد، البروفسور نواح فيلدمان، «سقوط الدولة الإسلامية وصعودها» NOAH FELDMAN. «The Fall and Rise of theIslamic State» والذي نشر عام 2008م باللغة الإنجليزية وقد اقتنيت الكتاب وقرأته أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأميركية بعد صدوره بعدة أيام، كما قمت بزيارة الكاتب في مكتبه في الجامعة لاستجلاء القصور في فهم بعض مما ورد في كتابه عن بلادي المملكة العربية السعودية إلا أن وقته ووقتي لم يسعفانا في ذلك فتركت نسختي من الكتاب على مكتبه وقد قام مشكورا بإرساله لي مذيلا بإهداء منه بالبريد على عنواني في الرياض.

وعدت لقراءة الكتاب مرة أخرى بعد احتدام الصراع في مصر حول الدستور، ودخول هذا المصطلح لكل بيت عربي. فأصبحت كلمة الدستور من المصطلحات التي يرددها الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وكأنها فتح جديد نزل من السماء على بلداننا العربية والإسلامية، ناهيك عن بعض المختصين في القانون (الذين غلبوا الخطاب السياسي على القانوني) في الحديث عن دستورية هذه الدولة أو تلك وبدأنا نسمع مصطلح الفراغ الدستوري يطلق على الدولة التي ليس لديها دستور مكتوب كالمملكة العربية السعودية وكأننا في السعودية على وجه الخصوص نعيش في دولة تعاني من فراغ دستوري يسودها شريعة الغاب في ظل غياب سيادة القانون كما يحاول البعض أن يروج له.

وقد تنبأ الكاتب في كتابه بصعود الحركات الإسلامية المعتدلة في الدول ذات الأغلبية المسلمة، تلبية لرغبة الشعوب في إقامة نظم حكم ديمقراطية تحافظ على القيم الإسلامية من خلال الشريعة، بعد أن عانت تلك الشعوب من سلطة الحكم المطلق التي جلبتها إلى بلدانهم أنظمة الحكم العسكرية العلمانية التي لم تحترم سيادة القانون وحاربت طبقة علماء الشريعة ورسخت الاستبداد والفساد، مما أعاد الشعوب العربية والإسلامية للحنين إلى الماضي، حين كانت الدولة الإسلامية ناجحة في مختلف مجالات الحياة، وهذا يعود إلى مشاعر دينية تؤمن بها تلك الشعوب وبأن الالتزام بالشريعة سينقذ بلادهم من الفساد من خلال أنظمة حكم تحترم شرع الله. ويبين الكاتب تأييده الكامل لتطبيق الشريعة في البلدان الإسلامية كونها الأكثر قبولا لدى تلك الشعوب لجذورها الدينية العميقة وتوافقها مع حكم القانون، فنظام الشريعة يستند إلى سيادة القانون وإلى فكرة أن الجميع مسؤول عن احترام شرع الله والتمسك به.

كما قلل من مخاوف الغرب من تطبيق الشريعة في البلدان الإسلامية المعتدلة وبين أنه على مدى تاريخ الحكم الإسلامي، كانت الشريعة دائما تتسم بقدر من المرونة يسمح للمسلمين، بعد الالتزام بمبادئها الرئيسية، بالتوفيق بين أحكامها الثابتة والظروف المتغيرة في كل عصر.

ومن أهم النقاط التي أشار إليها في كتابه أن نجاح الدولة الإسلامية التقليدية في الماضي (والتي تمثلها السعودية في الوقت الحاضر) سببه اتسامها بسمة أساسية من سمات الحكم الدستوري، وهي التوازن بين السلطات، وهو السبب الرئيسي في نجاح الدولة الإسلامية ذات الدستور التقليدي غير المكتوب على مدى عدة قرون من الزمن، وقد أمكن الحفاظ على ذلك التوازن من خلال شرعية الحاكم المستمدة من تطبيق الشريعة. ولم يكن بوسع الحاكم سن القوانين، فالقوانين تستمد روحها ونصها من الشريعة الإسلامية وكان العلماء (وما زالوا في السعودية) يتولون تفسيرها، كما تولى العلماء الشرعيون مهمة السلطة القضائية (كما هو الحال في السعودية اليوم).

كما تحدث الكاتب عن أسباب سقوط الدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة وأرجع ذلك إلى ما تم الأخذ به من إصلاحات قلصت دور علماء الشريعة كحراس لها وتحويل الشريعة الإسلامية من مجموعة مبادئ قانونية، ومثل وقيم عامة يسترشد بها الجميع في ضوء تفسير العلماء الشرعيين، إلى مجرد نصوص جامدة ككتب القوانين الوضعية.

وبعد أن فرغت من قراءتي للكتاب ومشاهدة نشرة أخبار العالم العربي ذلك اليوم، أدركت تمام الإدراك بأن هذه الدولة (الدولة السعودية) التي تدخل عامها الثمانين بعد المائتين منذ تأسيسها الأول، إلى وقتنا الحاضر، وما تعيشه من نهضة حضارية شاملة في ظل الدولة السعودية الثالثة، التي أسسها الملك عبد العزيز - رحمه الله - دولة حديثة، بنيت على عقيدة صحيحة دستورها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على منهج إسلامي معتدل، مكن السعوديين من مقابلة العصر وتحدياته واستمرار كيانهم وتجدده بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة، قدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها»، وسار السعوديون جميعا حكاما وعلماء في مشوارهم الحضاري لبناء دولتهم المسلمة الحديثة في علاقة منسجمة ومتوازنة، يقول الملك عبد العزيز - رحمه الله - «وإني أنفذ القول الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه أيها العلماء فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال العلماء الأعلام المعتمد عليهم عند أهل السنة والجماعة» (خير الدين الزركلي - «شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز» 1985م).

والتجربة السعودية في بناء الدولة الإسلامية الحديثة تجربة حية واقعية، أثبتت صلاحية دينها وقدرته على التحدي والإبداع، وما تعيشه السعودية اليوم من نهضة شاملة في ظل احتكام لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وتطبيق شرعه شاهد حي على ذلك.

ومن المدهش حقا أن نرى أحد رواد الفقه الدستوري والقانون الدولي في العالم اليوم، الذي أشرف على كتابة الكثير من دساتير الدول، يقرر أن إقصاء علماء الشريعة ونبذ الشريعة نفسها أو تطبيقها سبب في سقوط وصعود الدولة الإسلامية!