الدول العربية وتخبط البحث عن الذات على مشارف الهاوية الاقتصادية

TT

لم يتعاف العالم العربي بعد من تبعات ربيعه. ويواجه العرب الآن تحدي إعادة هيكلة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في آن واحد. ومن الصعب للسائر في شوارع القاهرة هذه الأيام التقليل من حجم وخطورة هذا التحدي. وبينما تحتدم الآن معركة إعادة صياغة دساتير دول الربيع العربي، يدور النقاش حول دور الدين في الدولة الحديثة ومدى حميمية العلاقة بينهما، كما يتم البحث في شكل النظام الاقتصادي الذي سيتم اعتماده بعدما شوه رأسماليو الأنظمة البائدة صورة نظام السوق الحرة. وهكذا لم تتضح بعد النتائج النهائية التي سيئول إليها هذا التحول. ومما يزيد من ضبابية المشهد أن كل دولة عربية تواجه شكلا مختلفا لمدى وحدة هذا التحول ومزيجا خاصا من ثورة غضب الحرمان والتهميش التي اعتدنا تسميتها مجازا الربيع العربي.

وفي خضم اختلاط الرؤى وتداخل الصورة هذا بين التخبط والسعي بخطى حثيثة للتغيير، تطفو على السطح ثلاث مميزات رئيسية للمشهد العربي: فقدان الثقة وعدم وضوح الرؤية والخوف.

لقد انفرط نسيج الثقة في المجتمعات العربية عبر العقود الماضية. فتم إلغاء العقد الاجتماعي الذي حدد العلاقة بين الدولة الرعوية التي تعين الشعب على تكاليف الحياة من جهة، والمواطن الذي يتغاضى بالتالي عن عدم تمثيله في منظومة الحكم من جهة أخرى. ولقد انقض هذا العقد لعدم قدرة الدولة على مواجهة تكاليف رعويتها في ظل انعدام التوازن بين نمو سكاني سريع وركود اقتصادي خانق. وفي الوقت ذاته استعاضت أنظمة الحكم عن هذه الصفقة السياسية بالحل الأمني. فتخلت أجهزة الأمن العربية عن دورها المفترض في حماية المواطن لتصبح وبلا منازع معذبهم الأول والجلاد الذي لن يتوانى عن الاضطهاد دفاعا عن أنظمة حكم استبدادي حاربت بعناد موج الحرية العارم.

علاوة على ذلك، أدت الخصخصة غير الممنهجة التي اتجهت إليها الدول العربية بحثا عن مخرج من الركود الاقتصادي في ظل غياب المؤسسات الرقابية والتنظيمية إلى تفشي واستفحال الفساد. وأضحت البنوك والمؤسسات المالية أدوات للمحسوبية والوساطة تقرض وفقا للحسابات السياسية وليس لمعايير الربح والخسارة.

وبين هذا وذاك استعاض النظام العربي عن العلاقة التي جمعته بشعوبه بعلاقة أخرى ضيقة مع النخبة الاقتصادية مبنية على مصالح مالية وفساد في ظل تهميش اقتصادي وسياسي للسواد الأعظم من فئات المجتمع.

وهكذا انحل عقد الثقة بين المواطن العربي ومؤسساته وحكامه ورموزه السياسية والاقتصادية. وهذا يفسر ما يدور في ميادين دول ما بعد الربيع العربي من مظاهرات واعتصامات فئوية وحزبية. والأزمة الراهنة التي تعصف بمصر يمكن اختزالها بعيدا عن الدستور وتأسيسيته بغياب تام للثقة بين عناصر المجتمع الإسلامية والمدنية والعسكرية يهدد أركان الدولة بالعجز والانهيار.

وهكذا وصلنا إلى انهيار الدولة العربية التي كانت سيدة المشهد في عقود ما بعد الاستقلال من الاستعمار. إن الغموض وعدم اليقين هذا يؤثر سلبا وباطراد على إمكانية تحقيق التعافي الاقتصادي. وعلى عكس المخاطر محسوبة النتائج والاحتمالات (Risk) تطغى الآن حالة من عدم وضوح الرؤية (Uncertainty) حيث جميع الاحتمالات ممكنة. وعدم اليقين هذا يؤدي إلى شلل اقتصادي تام، حيث تقف أسواق المال والتأمين عاجزة عن استيعاب المخاطر والتحسب ضدها عن طريق العقود التأمينية. وهكذا تسود حالة من الترقب والخوف تؤثر سلبا على الاقتصاد وتمنع تدفق الاستثمارات.

ومما يزيد من مرارة المشهد، الصدمة الاقتصادية العنيفة التي تلم بالعالم العربي، فقد توقف بل وانعكس تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة. وتحول جل اهتمام الحكومات العربية إلى التعامل مع المطالب الآنية لشعوبها الغاضبة على المدى القصير لحماية نفسها من الإطاحة ودون مراعاة آثار ذلك على المدى الطويل. وهكذا نما عجز الموازنات في سبيل تلبية وعود الأنظمة العربية غير الواقعية أو المجدية اقتصاديا التي لجأت إليها هذه الحكومات كملاذ أخير للبقاء على سدة الحكم.

واقترضت الحكومات العربية بمعدلات فائدة غير منطقية (16 في المائة في مصر) مما يزرع بذور مأساة اقتصادية في المستقبل القريب. وتضاءلت مدخلات السياحة وتراجعت الاحتياطات الأجنبية في مصر مثلا إلى 15 مليار دولار أميركي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 بعد أن كانت 36 مليار دولار أميركي في ديسمبر (كانون الأول) 2010. وعليه فإن الحاجة أمس ما تكون لتحقيق استقرار اقتصادي ووقف النزيف. إلا أن ذلك يبدو، وللأسف، من موقعي هنا في القاهرة بعيد المنال.

* أستاذ الاقتصاد والسياسة في الجامعة الأميركية بالقاهرة وعضو في لجنة العالم العربي في المنتدى الاقتصادي العالمي