هاوية العجز ومخاوف الركود الاقتصادي في أميركا

TT

إن السبب الأول الذي يدفع الولايات المتحدة للإسراع في ردم «هاوية العجز المالي» التي يطلق عليها مجازا «الهاوية المالية» هو سبب اقتصادي، حيث إن زيادة الضرائب بمقدار 500 مليار دولار وخفض النفقات المقرر لهما أن يبدآ مطلع عام 2013 قد يؤديان في الغالب إلى حالة ركود اقتصادي جديدة، إذ تتوقع «لجنة الميزانية التابعة للكونغرس» أن ترتفع معدلات البطالة من 7.9 في المائة حاليا إلى 9.1 في المائة بنهاية عام 2013. وربما تكون الأمور أسوأ من ذلك، حيث يؤكد ديفيد ستوكتون من «معهد بيترسون» - الذي كان حتى وقت قريب أحد كبار خبراء الاقتصاد في مجلس الاحتياطي الفيدرالي - أن حدوث ركود اقتصادي آخر، بينما لم يتعاف الاقتصاد من الركود الاقتصادي السابق بعد، سوف يؤثر بشدة على نفسية الأمة، والشعور بالخوف سوف يدفع المستهلكين والشركات إلى تقليص الإنفاق، مما قد يؤدي إلى استمرار الارتفاع المتواصل في معدلات البطالة لسنوات قادمة.

أما السبب الثاني فهو سبب سياسي، ذلك أن الرئيس أوباما وزعماء الكونغرس بحاجة إلى أن يثبتوا للأميركيين أنه يمكنهم ممارسة الحكم بما يحقق المصلحة الوطنية الكبرى، فالثقة هنا لها أهمية كبيرة، وقد بدد المأزق السياسي الحالي هذه الثقة تماما، إلا أنهم لم يتعلموا الدرس بعد، فأوباما مستمر في تصعيد مطالبه بزيادة الضرائب، مما يجعل الجمهوريين أكثر تصلبا في معارضتهم، ويبدو أن هناك المزيد من الصدامات السياسية المتهورة التي تلوح في الأفق. وهذا الوضع يبعث على الأسف، لأن الخطوط العريضة للصفقة المطلوبة واضحة. ولننظر إلى النقاط التالية:

• يقوم أوباما وزعماء الكونغرس بإلغاء معظم خطط زيادة الضرائب وخفض النفقات التي ستؤدي إلى الهاوية المالية، ويتفقون بدلا من ذلك على حزمة قوانين تقلل تدريجيا من عجز الميزانية من 7 في المائة من الاقتصاد (إجمالي الناتج المحلي) عام 2012 إلى 2 في المائة عام 2020، ثم تحقق التوازن في الميزانية بعد ذلك بفترة قصيرة.

• يقبل الجمهوريون بزيادة فورية في الضرائب المفروضة على «الأثرياء»، وهم من يتجاوز دخلهم 250 ألف دولار بالنسبة للمتزوجين و200 ألف دولار بالنسبة لغير المتزوجين. وقد فاز أوباما في الانتخابات، وكان ذلك هو الحد الأدنى من مطالبه، إلا أن هذا لا يستلزم زيادة نسبة الضرائب المفروضة حاليا على الشريحة العليا من المجتمع ونسبتها 35 في المائة بصورة دائمة لتصل إلى 39.6 في المائة. وبدلا من ذلك، يقبل أوباما بفرض ضريبة إضافية أو وضع حد أقصى للاستقطاعات الضريبية لمدة عام واحد، وخلال تلك الفترة يتعهد كل من الكونغرس والإدارة الأميركية بتطبيق خطة إعادة هيكلة ضريبية ترمي إلى خفض نسب ضرائب الدخل المفروضة على الشريحة العليا من الأفراد والشركات إلى 30 في المائة.

• ومن أجل الوصول إلى نسبة الـ30 في المائة هذه دون خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء، يوافق الجمهوريون على زيادة الضرائب المفروضة على توزيعات أرباح الأسهم والمكاسب الرأسمالية (أي الأرباح من مبيعات الأسهم وغيرها من الأصول)، التي تخضع حاليا لضريبة لا تتجاوز نسبتها 15 في المائة، وهي ميزة هائلة بالنسبة للأغنياء، في حين أن دافعي الضرائب الذين يتجاوز دخلهم 200 ألف دولار يحصلون على نحو 90 في المائة من هذه المزايا، وذلك بحسب ما ذكره «مركز السياسات الضريبية»، وهو معهد دراسات مستقل.

• يؤيد الجمهوريون رفع سقف الديون الفيدرالية بمقدار تريليوني دولار على الأقل، حيث إن السقف الحالي البالغ 16.4 تريليون دولار سوف يتم الوصول إليه أوائل العام القادم.

• يوافق أوباما على إجراء تخفيض كبير في مخصصات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، كما يتعهد بإطلاق حملة من أجل دعم تطبيق تلك التخفيضات، ويكون هذا هو رد الجميل من الديمقراطيين إلى الجمهوريين مقابل التنازلات الضريبية التي قبلوا بها. وفي عام 2011، كانت برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية تتكلف 1.2 تريليون دولار، بما يمثل 36 في المائة من الإنفاق الفيدرالي من غير الفوائد، واستبعادها قد يجعل أي صفقة صغيرة جدا أو معتمدة بشدة على زيادة وخفض الضرائب في البرامج الأخرى. وبالتالي يجب رفع أعمار أهلية الاستفادة من هذه البرامج، كما يجب خفض المزايا التي يحصل عليها المتقاعدون الأكثر ثراء.

• إدراكا لأن التوصل إلى ميزانية متوازنة يتطلب قدرا أكبر من خفض النفقات وزيادة الضرائب، يقوم البيت الأبيض والكونغرس بتشكيل مجموعتي عمل: إحداهما لدراسة فرض ضريبة على الطاقة، والأخرى لدراسة ضبط تكاليف الرعاية الصحية، التي تمثل حاليا ربع الإنفاق الفيدرالي.

ولن يستطيع أي حزب بمفرده أن يمرر حزمة قوانين مثل هذه، فإجراء تغييرات ذات معنى على الميزانية سوف يتطلب «أن يخرج الجميع من منطقة الراحة الحالية»، كما يذكر الخبير الاقتصادي تيموثي تايلور في مدونته، وتكوين ائتلاف وسطي هو وحده ما يمكن أن يحيد المعارضة من كلا الطرفين الحزبيين. وقد بدأت الجماعات الليبرالية بالفعل في التعبئة ضد خفض مخصصات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، كما أن معاداة الجمهوريين لزيادة الضرائب لها جذور عميقة.

وهناك مبالغة في هذه الاعتراضات، حيث إن ملايين المتقاعدين المرتاحين ماديا يمكنهم تحمل خفض مخصصات الضمان الاجتماعي أو رفع أقساط الرعاية الصحية مع الاحتفاظ بالمستوى المادي المريح، وبالمثل فإن زيادة الضرائب بنسب متواضعة تكون لها «أثر طفيف على النمو (الاقتصادي) عندما تكون نسب الضرائب متدنية أو متوسطة»، بحسب ما ذكره الخبيران الاقتصاديان نير جايموفيتش من جامعة ديوك، وسيرجيو ريبيلو من جامعة نورث ويسترن في دراسة لهما، في حين أن «الاستمرار في رفع الضرائب لا يكون له تأثير سلبي كبير على أداء النمو الاقتصادي إلا عندما تكون نسب الضرائب مرتفعة».

ومع ذلك، فإن أصحاب الآيديولوجية التقليدية لن يتحولوا إلى براغماتيين، وتعتبر معارضتهم إحدى العقبات التي تعترض سبيل التوصل إلى صفقة في ما يتعلق بالميزانية. وهناك عقبة أخرى، وهي الرأي العام، ذلك أن الاقتصاد الأميركي يشبه مريضا معتل الصحة تم منحه دواء قويا، وهذا الدواء هو مظاهر عجز الميزانية. فإذا ما تم منع الدواء مرة واحدة، فإن المريض سوف يتعرض لانتكاسة، وهي الهاوية المالية. ولكن إذا لم يتم منع الدواء على الإطلاق، فإن المريض قد يواجه آثارا جانبية شديدة السمية، وهي أزمة مالية سوف تحدث في المستقبل إذا ما رفضت المصارف تقديم القروض بأسعار فائدة منخفضة. والأمر يبدو محيرا، لأنه محير بالفعل، فالمطلوب هو تقليص أوجه العجز تلك، ولكن ليس بسرعة أكبر من اللازم. ولم يفسر أحد للأميركيين بصورة كافية تلك الاختيارات المختلطة، لا الرئيس ولا كبار خبراء الاقتصاد ولا زعماء الكونغرس. ونحن لن نكون أبعد عن الانتخابات القادمة مما نحن عليه الآن، كما أن الاقتصاد يشهد حالة متواضعة من التعافي.. فهل هناك وقت أفضل من ذلك للتعامل مع هذه المشكلات المحيرة وغير الشعبية، أم أننا نقامر بأن نستمر في الانزلاق إلى الأمام إلى ما لا نهاية؟

* خدمة «واشنطن بوست»