هل ترغبون في احتلال وول ستريت أم يكفي أن تسحبوا أموالكم؟

TT

منذ قرن مضى، كتب لويس براندايس، وهو محام مرموق في بوسطن أصبح في ما بعد عضوا في المحكمة الأميركية العليا، سلسلة من المقالات في مجلة «هاربرز ويكلي» استنكر فيها ما سماه «الأوليغاركية المالية» في وول ستريت التي استولت فعليا على الاقتصاد الصناعي الآخذ في الازدهار. وأكد الرجل أن المصارف الاستثمارية التي تقف في قلب هذه الأوليغاركية، لم تكن قانعة بمجرد تداول الأوراق المالية، التي اتخذت فيها موقفا «غير متسق» بأن جعلت من نفسها البائع والمشتري في نفس الوقت، كما أنها كانت تحتكر السوق في ما يتعلق بعملية «تصنيع» و«توزيع» الأوراق المالية، لتربح رسوما ضخمة من وراء ذلك، وكان الشركاء في هذه المؤسسات يربحون دخولا لا يتم الحصول عليها عن طريق «سيادة العقل والمنطق»، بل عن طريق تحصيل أقصى حد ممكن من الرسوم.

هل يبدو ذلك مألوفا؟

كي نكون منصفين، فإن عالم المال اليوم قد صار أكثر شفافية وتنوعا وتنافسية، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أنه قد أصبح أكثر تنظيما، ومنذ حدوث الأزمة المالية عام 2008، ظلت الحكومة تحاول من جديد كبح جماح ذلك الإفراط في القوة والمخاطرة والأجور الذي يميز وول ستريت، وهو ما وضع لأجله قانون «دود فرانك» للإصلاح المالي. ولكن، بينما كان معظمنا ملهيا في الانتخابات والمزايدات السياسية، كانت صناعة الخدمات المالية تشن هجمة مضادة ضارية تتمتع بتمويل جيد، وقد حققت هذه الهجمة نجاحا ينذر بالخطر في إرهاق الجهات التنظيمية في القطاع المالي، حيث كان يحدث عراك بالأيدي حول كل كلمة في كل لائحة تنظيمية، ومهما كان الأمر، فإن كل لائحة من تلك اللوائح سوف تكون عرضة لاستراتيجية قانونية مستميتة لديها استعداد للمضي قدما في طريقها حتى لو وصل الأمر إلى المحكمة العليا. ومن خلال الاستعانة بالنواب الجمهوريين داخل الكونغرس، فقد سعت هذه الصناعة أيضا إلى تقليص ميزانيات الجهات التنظيمية، والوقوف أمام الترشيحات لتولي المناصب التنظيمية، وحرمان منتقدي هذه الصناعة، من أمثال إليزابيث وارين، من الفوز بمقاعد في اللجان الرقابية ذات الصلة بها.

ويختلف عمق واتساع الحملة التي شنتها صناعة الخدمات المالية من أجل إسقاط قانون «دود فرانك»، اختلافا تاما عن أي حملة رأيتها في واشنطن، ولا يخالجني أي شك في أن هذا هو أحد العوامل التي تقف وراء القرار الذي اتخذته ماري شابيرو الأسبوع الماضي بالتقاعد من منصب رئيس «هيئة الأوراق المالية والبورصة». وهذه التطورات - في مواجهة انتخابات تلقى فيها المرشحون الذين يرفعون شعار «إلغاء قانون دود فرانك» هزيمة مدوية - تمثل تذكيرا بأن هناك الكثير جدا مما يمكن أن تفعله الضوابط التنظيمية من أجل تغيير سلوك وثقافة صناعة مالية قوية وعنيدة، ذلك أن وول ستريت سوف يظل دوما يمتلك من البراعة والقوة ما يمكنه من الالتفاف حول أي حواجز تضعها الجهات التنظيمية حسنة النية في طريقه.

إلا أن براندايس أدرك أن هناك شيئا آخر يمكننا أن نفعله لضمان أن يعمل النظام المالي في خدمة الاقتصاد، بدلا من أن يفعل العكس، حيث كتب أنه «رغم كل شيء، فإن هذه الأموال التي يتلاعبون بها ليست أموالهم، بل أموالنا نحن، وإذا لم ترق لنا الطريقة التي يستثمر ويقرض بها وول ستريت هذه الأموال وما يحصل عليه من مقابل لذلك، فإن كل ما علينا أن نفعله هو أن نضعها في مكان آخر». وما كان يدور في ذهن براندستاين هو إنشاء مجموعة جديدة من المؤسسات التي يمتلكها ويديرها عملاؤها، مثل المصارف وشركات التأمين المشتركة، والتعاونيات بمختلف أنواعها، والاتحادات الائتمانية، وصناديق معاشات التقاعد التي يديرها العاملون بها.

وقد كان لدينا في الماضي مؤسسات أكثر بكثير من هذا النوع، ويعود تاريخ هذا الاتجاه إلى شركة التأمين المشتركة التي أسسها بين فرانكلين في ولاية فيلادلفيا، إلا أن الملكية المشتركة فقدت رونقها في ستينات القرن العشرين، فمن أجل خفض تكلفة العمليات الوسيطة، رأت الشركات المالية ضرورة أن تصبح أكبر، وأن تقدم منتجات أكثر، وأن تعبر حدود الدولة، ولتحقيق ذلك كانت تحتاج إلى رأسمال أكبر، وهو ما لم يكن من الممكن تدبيره سوى عن طريق إصدار أسهم للمستثمرين الخارجيين. كما كانت ملكية العملاء تمثل عائقا هي الأخرى، مما جعل «إلغاء الملكية المشتركة» هو الاتجاه السائد.

وبالطبع، كانت هناك أيضا أسباب أخرى، فمن خلال التحول من الملكيات المشتركة إلى الملكية المساهمة، صار في مقدور الملاك من العملاء أن يستحوذوا لأنفسهم على رأس المال والقيمة التي ظلت الأجيال السابقة لهم تعمل على بنائها بعناية وحرص، ليحصلوا لأنفسهم على توزيعات أرباح ضخمة دفعة واحدة. كما أغدق المسؤولون التنفيذيون على أنفسهم هبات كبيرة من الأسهم وخيارات الأسهم في الشركات التي أعيدت هيكلتها وتحولت إلى شركات مساهمة، مما جعلهم أكثر ثراء مما كان يمكن أن يحلموا به على الإطلاق في أي شركة تدار من أجل منفعة عملائها فقط. ورغم تراجع الحصة السوقية للمؤسسات المشتركة والاتحادات الائتمانية والتعاونيات، فإنها لم تختف أبدا، ففي ظل قبول الشركات المساهمة للمزيد والمزيد من المخاطر والقروض ودخولها في مجموعة أوسع بكثير من المنتجات والخدمات، ظلت المؤسسات المشتركة ملتزمة بالأساسيات، وعندما وقعت الأزمة المالية عام 2008، نجحت المؤسسات المشتركة في اجتيازها بصورة أفضل وخرجت منها أقوى من أي وقت مضى.

واليوم، فإن المصارف المشتركة والاتحادات الائتمانية تعمل بكفاءة أكبر من منافساتها المملوكة للمساهمين، حيث إن خسائر القروض والديون المشطوبة التي تسجلها أقل، والمخاطر والقروض التي تتحملها أقل، والرسوم التي تقوم بتحصيلها مقابل خدماتها أقل، وأسعار الفائدة التي تقدم بها القروض أقل، كما أنها تقرض قدرا أكبر من أموالها إلى الأسر والشركات الصغيرة، ولديها بصورة واضحة تصنيفات خدمات أفضل من جانب العملاء.

والفارق الكبير يتبين في مجال خدمة العملاء، حيث إن جميع شركات التأمين تقريبا التي تحقق أعلى التصنيفات في مجال خدمة العملاء - هي من الشركات المشتركة. وقد شاهدت ذلك بنفسي، حيث قمت طوال الـ35 عاما الماضية بالتأمين على سيارتي لدى شركة «أميكا»، وهي شركة مشتركة، والخدمة في هذه الشركة جيدة جدا إلى درجة أنه يكون من دواعي السرور تقريبا أن تتعرض لحادث بسيط بالسيارة، ولهذا السبب فإن الشركة تفوز في المعتاد بأعلى تصنيف في استطلاع الرأي الذي تجريه شركة «جيه دي باور». وتحقق شركة «أميكا» تصنيفات منافسة للغاية، وقد كان ذلك حتى قبل أن أتسلم الشيك الخاص بتوزيعات أرباح الأسهم في نهاية العام، وهي حصتي الصغيرة في أرباح الشركة.

وتعتبر شركة «أميكا» هي شركة الخدمات المالية المعادية لوول ستريت، حيث إن نموذجها التجاري يقوم على رأس المال الصبور، والاستثمار المتعقل، وثقافة من الولاء والعلاقات طويلة الأجل مع العملاء وكذلك العاملين. وعندما كان العملاء يتصلون بشركة «أميكا» بعد إعصار ساندي، كان متوسط فترة الانتظار من أجل الحديث مع أحد الموظفين بالشركة هو 9 ثوان. وقد قال لي الرئيس التنفيذي للشركة، روبرت دي موتشيو، الأسبوع الماضي: «أنا أعتبر أن وظيفتي هي أشبه بوظيفة الوصي. لقد تسلمت توكيلا وحفنة من رأس المال ظلت تنمو باطراد طوال 104 أعوام، ووظيفتي هي أن أنقلها إلى الجيل التالي من العملاء في حال أفضل مما كانت عليه حينما تسلمت مسؤوليتها».

وهذا هو الشاهد في الأمر: إذا كانت لا تعجبنا ثقافة وول ستريت التي تقوم على قلع عينيك من محجريهما، وإذا كنا قد سئمنا من الصراعات المتأصلة في المصالح، وإذا كنا لا نريد تشجيع التوسع في الاقتراض والمخاطرة وأجور المسؤولين التنفيذيين، فإنه يمكننا أن نأخذ أموالنا إلى مكان آخر: إلى الشركات التي تقدم منتجات وخدمات مماثلة في الجودة أو أفضل وبنفس الأسعار أو أقل. وينبغي أن ننسى مسألة احتلال وول ستريت هذه - فلماذا لا نسحب أموالنا منه فقط؟ بالتأكيد، قد يكون مما يساعد تلك الحركة الشعبية على تحقيق بعض التقدم أن تبدأ الشركات المشتركة القائمة بتسويق نفسها بصورة أكبر وضوحا وقوة كبدائل لوول ستريت، كما يمكنها أيضا أن تستخدم بعض رؤوس الأموال المتجمعة لديها في التوحد معا من أجل إطلاق صناديق معاشات تقاعد وصناديق استثمار وصناديق أسهم خاصة ذات ملكية تعاونية كي تخدم نفسها وعملاءها، مما يؤدي في الحقيقة إلى خلق عالم مالي بديل له قيم مختلفة وثقافة مختلفة. وهذا لن يكون مفيدا للمؤسسات المشتركة وملاكها من العملاء فحسب، بل سيكون مفيدا للنظام المالي بأكمله، فالتجربة التي رأيناها في صناعات أخرى تقول بأن حدوث تحول بنسبة ضئيلة تصل إلى 10% في الحصة السوقية قد يكون كافيا لخلق تهديد تنافسي من أجل دفع المؤسسات المالية الكبيرة إلى تقديم منتجاتها «العضوية» الخاصة بها، إذا استعرنا تشبيه السوبر ماركت الذي استعمله دوما.

وبعد ذلك، قد تزداد هذه العملية انتشارا مثل العدوى، لتغير من الطريقة التي تتبعها شركات الخدمات المالية في تقديم نفسها إلى السوق وتسجيل البيانات ووضع الاستراتيجيات. وبدلا من الدخول في سباق نحو القاع، مثلما فعلنا أثناء سنوات الازدهار الاقتصادي، فسوف يكون لدينا سباق نحو القمة.

* خدمة «واشنطن بوست»